سيرة شعرية للشاعر محمد الثبيتي

  • 7/24/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

وسيد البيد هو اللقب الذي اشتهر به الشاعر محمد عواض الثبيتي (1952 ـ 2011م), والذي بدأت حياته مع الشعر في سن السادسة عشرة من عمره، حين بدأ محاولاته الشعرية الأولى، والتي لم تكن تتعدى المعارضات للقصائد التي كانت تستأثر بلبّه، وأكثرها لأحمد شوقي. لكن تلك القصائد أو المعارضات التي كتبها في بداياته المبكرة لم تكن سوى محاولات خجولة، كان يجرب نفسه فيها، فلم تر النور، إذْ لم تنشر هذه المحاولات، ولم يحتفظ منها بشيء، فطواها النسيان. يذكر القاص فهد الخليوي، وهو من أصدقاء الثبيتي المقربين، إن أول نص شعري ينشره الثبيتي كان عنوانه (التحرر قليلا من أغلال الخليل)، وقد كان ذلك بتاريخ التاسع من فبراير لعام(1398هـ/ 1978م) في مجلة اقرأ حين كان فهد الخليوي يشرف على القسم الثقافي فيها. لكنه كان قد فاز قبل هذا التاريخ بجائزة رعاية الشباب، وتحديدا عام(1397هـ/ 1977م)، عن قصيدته (من وحي العاشر من رمضان). أما على مستوى الإصدارات، فقد كان ديوان عاشقة الزمن الوردي أول ديوان يصدر له، وقد كان ذلك في عام (1402هـ/ 1982م). وتجدر الإشارة هنا إلى أن عاشقة الزمن الوردي لم يكن ديوانه الأول، وإن كان أول إصداراته, وهذا ما لا يعرفه الكثيرون، حتى من أقرب القريبين من الثبيتي، إذ أن له ديوانا قبل عاشقة الزمن الوردي، فُقِد هذا الديوان بل ضلّ طريقه إلى النشر، وبفعل فاعل، هكذا قال لي ـ رحمه الله ـ في حوار صوتي(غير منشور) (1) سجّلتُه معه، وقد قال في هذا الحوار إن اسم الديوان المفقود (جراح عبر مسافات الشعر)، غير أنه في أحد حواراته القديمة, وتحديدًا في مجلة أقلام العراقية، يقول إن اسم ديوانه الأول (إيقاعات على زمن العشق)، وقد نشر حوار مجلة أقلام مؤخرًا في (موقع الشاعر محمد الثبيتي). بعد عاشقة الزمن الوردي بعامين، وتحديدًا في عام (1404هـ/ 1984م) يصدر له ديوان تهجيت حلمًا تهجيت وهمًا. وبعده بعامين ـ كذلك ـ يصدر ديوان التضاريس، الذي يعد فتحًا من فتوحات الشعر، لا على مستوى الشاعر فحسب، بل على مستوى المشهد الشعري كله، في المملكة وخارجها، ليحلق اسم الثبيتي بعدها في سماوات الشعر، مشكلا ـ هذا الديوان ـ المحطة الأبرز في حياته، على المستويين؛ الفني والشخصي. يلحظ المتتبع لإصدارات الثبيتي أنه أصدر ثلاثة دواوين خلال ست سنوات، وكأنه رحمه الله كان في سباقٍ مع الزمن, فراح يصدر في كلّ سنتين ديوانًا، آخرها التضاريس، وبانتظام (82 ، 84 ، 86) هي أخصب سنيّ عمره الشعري. لكنه بعد التضاريس صمَتَ طويلا، إلى أن صدر ـ بعد ما يقارب العقدين من الزمان ـ «موقف الرمال موقف الجناس» وتحديدا في عام (1425هـ/ 2005م) على صفحات كتاب جهات، الصادر عن دار شرقيات، في عددها الثاني، مشفوعًا بقراءة للأستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح، ومما جاء في هذه القراءة: «أضع هذه الإشارات - على إيجازها - بين يدي ديوانه الرابع مؤكدًا بذلك أن الديوان ميلاد دورة شعرية عربية جديدة, تبدأ هذه المرّة من الجزيرة, وليس من بغداد أو القاهرة.»(2) كثيرًا ما كان يُسأل الثبيتي عن أسباب ذلك الصمت الطويل، وكان دائما يجيب بأنه لم يصمت يومًا، وقد صدق، وهل غير الموت يستطيع أن يكمم أفواه الشعراء، وخاصة مَن كان منهم كالثبيتي. والصحيح أن الثبيتي بعد التضاريس، وبعد أحداث جائزته في نادي جدة الأدبي عام (1411هـ/1991م)، قد واجه الكثير من المتاعب والمشكلات من قِبل التيارات الدينيّة المناهضة للحداثة, والمجال لا يتسع الآن لذكر ما تعرّض له الثبيتي من تلك المتاعب والمشكلات، التي ضاعفت من زهده في الأضواء وكادت تغيّبه عن المشهد الشعري، غير أنها كرّست في نفسه عزلة هي من ذلك النوع الذي يستهوي الشعراء عادة، أفاد خلالها الكثير من المراجعات الفنية والتأمل الفلسفي، ليظهر ـ بعدها ـ في موقف الرمال, أكثر قربًا من روحه المهيضة الجناح, وأكثر عمقًا, حين يقول مخاطبًا القصيدة: أَأَنْتِ هُنَا؟ أَأَنْتِ هُنَا قَابَ قَوْسِيْنِ مِن أَرَقِي العَذْبِ كَي لاَ أَنَامْ أَأَنْتِ هُنَا يَا الَّتِي أَسْكَنَتْنِي حَدَائِقَهَا وَحَبَتْنِي شَقَائِقَهَا وَسَقَتْنِي رَحِيْقِ الغَمَامْ يَا الَّتِي رُوْحُهَا لَثِمَتْ وَجَعِي وَمَلاَئِكَهَا هَدْهَدَتْ مَضْجَعِي ثُمَّ أَسْرَتْ بِرُوْحِيْ جَنُوْبًا وَشَامْ يَا الَّتِي سَكَنَتْ غُرْفَةَ لاَ تُمَسُّ سَتَائِرُهَا وَحِيْنَ لَمَسْتُ قُيُوْدِيَ كَانَتْ ضَفَائِرُهَا فَاحْتَجَبْتُ بَأَحْشَائِهَا أَلفَ عَامٍ وَعَامْ وَصِرْتُ أُغَنِّي بِلاَ شَفَتَيْنِ وَأَحْيَا بِلاَ رِئَتَيْنِ وَأٌلْجِمُ بَيْنَ يَدَيْهَا خُيُوْلَ الكَلاَمْ أما ديوانه الخامس والأخير (بوابة الريح), فقد صدر ضمن الأعمال الكاملة، عن نادي حائل الأدبي، ودار الانتشار العربي، عام 2009م، وقد أصبح اسمه إحدى المحطات المضيئة عبر امتداد الشعر العربي: مَضَى شِرَاعي بِمَا لا تَشتهِي رِيحِي وفَاتَنِي الفِجْرُ إذْ طالَتْ تَرَاوِيحِي أَبْحَرْتُ تَهوِي إلى الأعماقِ قَافِيَتِي ويَرْتقِي في حِبالِ الرِّيحِ تَسْبِيحِي مُزمَّلٌ فِي ثِيَابِ النُّورِ مُنْتَبِذٌ تِلْقَاءَ مَكَّةَ أَتْلُو آيَةَ الرُّوحِ امتاز الثبيتي ـ وهو الشاعر الحداثي ـ بتمثله ومن ثم انطلاقه من إرث عظيم أبدعه شعراء العربية عبر عصورها، تشبّعت به روحه، ووعاه حسه، فلم يثر عليه ويعلن القطيعة النهائيّة عنه، كما فعل معظم شعراء مدرسة (تكسير البنية) وشعراء مدرسة (تجديد الرؤيا) التي هي امتداد لتكسير البنية, حين استطاع أن يجعل من حداثته امتدادًا لكل موروثه الشعري، ليس على مستوى المضمون وإنما لحرصه على الوزن والقافية من جهة, وانفراده من جهة أخرى بتلك المفردة الرصينة المعفّرة برمال الصحراء وبداوتها, والتي وإن بدت أقرب نسبًا إلى معجم عصور ما قبل الانحطاط, إلا أنها جاءت في تراكيب ممهورة بختم الثبيتي, الشاعر الذي لم تتخطّفه منازع التجريب، أو تزل به قدمه شرقًا أو غربًا كلما شام برقا خُلّبًا: هذا بعيري على الأبواب منتصبًا لم تعش عينيه أضواء المطاراتِ هكذا جاء الثبيتي (الحداثي) إلى المشهد الشعري المشدوه بالحداثة، ليصبح أحد رواده ليس على المستوى السعودي فقط، وإنما على المستوى العربي أيضًا، من ناحية نضج وفرادة القاموس الشعري، وتوظيفه المحكم للأسطورة والرمز، والاشتغال على خطابه الشعريّ الخاص. ورغم أنّ الثبيتي قد عُرف بزهده في الأضواء، ومثلها الجوائز، إلا أن الأضواء والجوائز هي التي ظلت تبحث عن الثبيتي، وقد عرفت طريقها إليه حتى من قبل أن يعرفه الناس شاعرًا، عبر جائزة رعاية الشباب عام (1397هـ/ 1977م) السالفة الذكر. حصل بعدها على جائزة نادي جدة الأدبي عام (1411هـ/ 1991م) عن ديوان التضاريس، وجائزة أفضل قصيدة في الدورة السابعة لمؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري عام (1420هـ/ 2000م) عن قصيدة ( موقف الرمال.. موقف الجناس)، ثم جائزة ولقب شاعر عكاظ لعام (1427هـ/ 2007م), في حفل تدشين فعاليات مهرجان سوق عكاظ التاريخي الأول. كان الثبيتي يقول عن شعوره أمام هذه الجوائز, إنه كان مرهفًا كإحساس الأطفال, بل قال عن جائزة عكاظ: تقبلتها كطفل وقبلتها كصوفي. إنّ الحديث عن تجربة الثبيتي لا يعني مجرد استحضارٍ لتلك المحطات التي سبق ذكرها، رغم أهميتها في مسيرته الشعرية، إذْ أنّ الحديث عن تجربة بهذا الزخم يحتاج إلى دراسات ودراسات، وإلى الكثير من العصف الذهني من قبل النقد وأدواته، من أجل ذلك ارتأيتُ اللجوء إلى مدونة النقد، لأستأنس بشيء مما قاله عنه نقاد كبار، واكبوا هذه التجربة الرائدة، ومارسوا تجاهها الفعل النقدي من وقت لآخر، ويأتي في مقدمة هؤلاء النقاد الدكتور عالي القرشي، والدكتور سعيد السريحي، والدكتور علي البطل، والدكتور محمد صالح الشنطي، والدكتور نذير العظمة، وغيرهم. يقول الدكتور عالي القرشي عن هذه التجربة: « استوقف التحول الشعري الذي صنعه وقاده محمد الثبيتي ـ الخطاب النقدي؛ حيث كان ذلك التحول يستدعي آليات جديدة في التلقي، وآليات للنقد في اكتشاف حركة النص، وكشف عوالمه.» (3) من الواضح إذن أنها تجربة لم تكن عادية وإلا لم يكن ليقف الخطاب النقدي حائرًا أمامها، بل تلجئه إلى البحث عن آليات جديدة للتلقي، ربما بسبب تعاملها الجديد مع المفردة، أو مع الرمز الذي دأبت على إعادة تشكيله. وقريب من ذلك ما قاله الدكتور سعيد السريحي وهو يؤكد «أنّ محمد الثبيتي يعيد قراءة التراث عبر لغته المنتسبة ألفاظًا وتراكيب للتراث، ولكن قراءته له كسر لجبرية المعنى، وبمثل هذه القراءة تتم إعادة إحياء التراث.»(4) كان الدكتور علي البطل من أوائل النقاد الذين التفتوا لتجربة الثبيتي، ولعله كان أكثرهم توقفا عندها؛ حين اتخذ الثبيتي أنموذجا في كتابه (الأداء الأسطوري في الشعر المعاصر ـ تطبيق على شعر محمد الثبيتي)، يقول الدكتور علي البطل في هذا الكتاب: «محمد الثبيتي هو شاعر أطلال الماضي، فإن قضيته التي يعيشها ــ لا في شعره فحسب؛ بل في وجدانه الفردي الشديد الخصوصية الكامن في لا وعيه؛ وفي حياته الواعية كذلك ــ هي قضية البابلي: التاريخ العربي، الذي كان مشرقا بالنبوءات والحضارات والفتوح؛ الذي يعيش حاضرا مهينا على كافة الأصعدة كلها، وفي البقاع العربية كافة.»(5) وإن تعددت زوايا النظر من قبل النقاد لهذ التجربة، فهي كلها لا ترى فيها إلا تجربة رائدة، انفتحت على كثير من الهم الإنساني، وتعاطت معه بفنيات هي غاية في الجدة والوعي، حتى في تقريره حين يقول: (أمضي إلى المعنى)، «كأنّ هذا التقرير عن الذات إعلان لحالة من التشظي، تتجانف على مخالفة المقولات النقدية، وخاصة تلك التي قاربت شعر محمد الثبيتي، فكأنه يخالف تلك المقولات التي لا تحفل بالمعنى، أو تلك التي تغيبه في إطار فلسفة العبث، وفوضى الحياة.»(6) وأخيرًا.. نحن نتذكّر رموزنا من باب الوفاء لهم, ولا يرى هذا الوفاء منا تقديسًا للرموز إلا جاهل. ــــــــــــــــــــــــــ 1 ـ كنت قد سجلت على شريط كاسيت ما يقارب 50 دقيقة من حوار أجريتُه مع الثبيتي عام 1411هـ في منزله بحي الملاوي بمكة، بعد سماعه التسجيل وبسبب الصراحة المطلقة التي تحدث بها طلب مني عدم نشره، وطلبت منه الاحتفاظ به معي كتذكار. 2ـ مجلة جهات( 2005 ) العدد الثاني، دار شرقيات، بيروت. 3ـ القرشي، د. عالي، تجربة الثبيتي عند النقاد العرب، ( نسخة الكترونية ) موقع الدكتور عالي القرشي. 4ـ السريحي، د. سعيد، جدلية الحداثة والتراث في تجربة الثبيتي، محاضرة ألقاها في نادي حائل الأدبي، ( نسخة الكترونية) موقع الشاعر محمد الثبيتي. 5ـ البطل ، علي، ( 1992م) الأداء الأسطوري في الشعر المعاصر ـ تطبيق على شعر محمد الثبيتي ، القاهرة، مجموعة ميرادية للتأليف والبحث العلمي والترجمة ،( د ط). ص 72.( نقلا عن موقع الدكتور عالي القرشي). 6 ـ القرشي، د. عالي (2009)، تحولات النقد وحركية النص، نادي حائل الأدبي، السعودية، ومؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط1، ص 355.

مشاركة :