«أنشودة المطر» للسيّاب... ملحمة المنفى والاغتراب

  • 7/26/2020
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

الشارقة: علاء الدين محمود لم يشكل شاعر العراق بدر شاكر السيّاب «1926 - 1964»، إلى جانب رفاقه عبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، ونازك الملائكة وغيرهم، منعطفاً في الشعر على مستوى الشكل فقط؛ ذلك المتمثل في الانتقال الحديث والكبير من البناء العمودي الكلاسيكي إلى قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر، أو الدفقة الشعورية؛ بل وكذلك على مستوى المضمون في المواضيع والأفكار، خاصة فيما يتعلق بالقصائد التي تغنت بالوطن، فالسيّاب قد أسس لنفسه طريقة مختلفة، في التعبير عن الواقع والمجتمع و«الوطن القضية»، و«الوطن الحبيبة»، والمنفى، والاغتراب، في زمن الاحتلال؛ حيث مال بمضمون متفرد نحو التجريد، لتصبح اللغة في حالة من السيولة؛ بحيث تنتج صوراً ومشاهدات، وكأننا أمام حالة سردية شاعرة يكثر فيها المجاز، وتمتلئ بالدلالات والرمزية التصويرية، وتتجول فيها القصص الميثولوجية والإشارات والرموز التاريخية، ليأتي النص محتشداً بالجمال والعطريات المتعددة، وربما يعود الفضل في تلك اللمحة السردية في شعر السيّاب إلى جدته التي كان يرتبط بها ارتباطاً وثيقاً، وكانت الحكايات التي ترويها له هي النافذة الأولى التي تنفتح على عوالم من الغرائب والعجائب. كما أن النص الشعري عند السيّاب، ينفتح على تأويلات وتفسيرات ومقاربات فكرية؛ وذلك لكثافة المعاني وعمق الدلالات؛ لذلك أطلق عليه شاعر «النبوءات»، ليس فقط فيما يتعلق بشعره الوطني، وما صدقته الوقائع من أحداث تنبأ بها؛ بل في مجمل أشعاره التي كان يشيدها بروح حكيم نافذ البصيرة، ويبدو من الصعب أن نقسم شعر السيّاب إلى أغراض متعددة؛ مثل: وطني وعاطفي وغير ذلك، فخطابه الشعري عصي على مثل هذا التقسيم والتنميط؛ حيث إن شعره هو حالة واحدة من التوهج. وعلى الرغم من أن السيّاب يعد من المجددين في الشعر العربي، فإنه كان شديد الانتماء إلى التراث العربي، وما كان له أن ينتقل هذا الانتقال الخلاق نحو تبني طريق شعري جديد، لولا معرفته الكبيرة والعميقة بالتراث الشعري والأوزان؛ بل كان شديد الإعجاب بشعراء بعينهم كان لهم الفضل في تكوينه الإبداعي مثل: المتنبي، والمعري، والبحتري، وأبو تمام، وأبو نواس، وكذلك كان شديد الإعجاب ببعض الشعراء الذين كتبوا الشعر العمودي في العصر الحديث، وعلى رأسهم أحمد شوقي، ومحمد مهدي الجواهري، كذلك تأثر ببعض رموز الشعر الإنجليزي والصيني. إضاءات وربما سيفوت على قرّاء شعر السيّاب الكثير إن هم لم يطلعوا على بعض من قصة حياته، فهي ذات أثر كبير في تكوين خطابه الشعري، الذي تتسلل إليه مفردات عديدة من حياة الطفولة والمعاناة التي عاشها شاعرنا، وصور الأماكن التي نشأ فيها، فقد ولد شاعرنا في محافظة البصرة جنوبي العراق، في قرية تدعى «جيكور»، وقد ذكرها كثيراً في شعره؛ بل وخلدها تماماً بعد أن تحولت بفضله، من قرية مهملة إلى مزار تتوجه إليه أفواج السياح، ولم تستطع سنوات الغياب والبعد أن تنسيه تلك القرية الوادعة، وبذات الحنين والعاطفة الملتهبة، كان قلب السيّاب يتلفت في غربته إلى البصرة، تلك المحافظة والمدينة الأثيرة لديه، حتى صارت، في لغته الشعرية، رمزاً يشير إلى كل العراق، فالسيّاب من الشعراء الذين تربطهم علاقة وجدانية بالمكان، تسري في أوردة شعره فتغذيه بتلك الحميمية الجميلة، إلى جانب الانتماء السياسي، والدراسة، والغربة، فتلك المسارات هي علامات شديدة الأهمية في تجربته الشعرية. حشد من الجمال وتعد قصيدة «أنشودة المطر»، التي يقول مستهلها: عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ / أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر.. من عيون الشعر العربي، وأنشودة ترددها القلوب والحناجر في كل حين؛ بل وقد ظل العراقيون في كل محنهم يسلون أنفسهم بهذه النفحة الوجدانية، والفيض الشعري المحتشد بالمعاني والصور البديعة الناتجة عن فعل التجريد، ففي هذا النص الفريد يعود السيّاب إلى البصرة، لتتداعى الذكريات قصصاً ومشاهدات، تتجمع لتكون لوحة تشكيلية حافلة بالألغاز والدلالات والمعاني الخفية. أوجاع النفس نحن أمام مشهد فريد تراجيدي غير مسبوق، في التعبير عن أوجاع النفس؛ لذلك ليس من الغريب أن تنال هذه القصيدة، ذلك الصدى الكبير؛ حيث صارت أنشودة في شفاه الناس، تغنى بها المغنون، كما تكمن براعة الابداع والتجلي في اسم القصيدة؛ حيث المطر هو حالة رمزية شديدة الدلالة والعلاقة بالصورة التي رسمها الشاعر، والمطر هو حمولة ثقيلة من الحزن، هو ماء العين، كما هو ماء السماء. يقول السيّاب: والموت، والميلاد، والظلام، والضياء؛ فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاء ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر! كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ وقطرةً فقطرةً تذوب في المطر... وكركر الأطفالُ في عرائش الكروم، ودغدغت صمت العصافير على الشجر أنشودةُ المطر... مطر مطر مطر. أمطار الحزن الفقد والحنين سمتان تتجولان في كل نص للسيّاب؛ لذلك نجد أن كل قصائده متشحة بالحزن، ولهذه الحالة الوجدانية تفسيرها في حياته الباكرة؛ حيث عاش يتيماً في طفولته؛ بعد أن فقد والدته وهو في السادسة؛ لذا، فإن الشعور بالاغتراب عنده هو شيء أصيل، وليس مكتسباً من حياة الهجرة والمنافي والتشرد التي عاشها، فهذا الفقد سرب إليه الإحساس القاسي بأنه غريب في هذا العالم المظلم، ثم جاء الفقد الآخر بأثره النفسي السيئ، وهو فقد الوطن، عندما هجره، ليعزز من ذلك الشعور الموحش، فقضية الاغتراب، تعد إحدى العلامات الكبيرة في شعره، فقد كان الشعر عند السيّاب هو تعبير عن حياة قاسية فيها الفقر والحرمان والفقد، ولأن الشاعر قد عاش في زمن رومانسي سادت فيه أحلام التحرر الوطني وغيرها من المفردات والأفكار المنتمية لقاموس مرحلة مواجهة الاستعمار، نجد أن هذه الرومانسية قد تسللت بدورها إلى نصوصه الشعرية، فمنحتها ذلك الشذى والروح والريحان.

مشاركة :