شاعر أقصر من بندقية

  • 7/26/2020
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

يوسف أبو لوز كانت العاصمة الأردنية عمّان في أواسط تسعينات القرن العشرين مدينة الملاذ والطمأنينة بالنسبة للعشرات من الشعراء والكتاب والفنانين العراقيين الذين تركوا بلادهم خلفهم على الرغم منهم، وليس حباً في الترحال والهجرة والتشرّد. ولم تكن عمّان في كل الأحوال آنذاك بالنسبة للكثير من المثقفين العراقيين سوى محطة يتدبّر هؤلاء أحوالهم فيها من حيث الحصول على فرصة هجرة أو لجوء اجتماعي أو ثقافي أو سياسي إلى الدول الأوروبية التي كانت تفتح المجال واسعاً للجوء إليها، وبخاصة الدول الاسكندنافية.أصبحت حالة البحث عن فرصة للجوء إلى أوروبا بين الكتّاب العراقيين أشبه بحالة شعرية، وبدا أن الكثير من هؤلاء قد حرق سفنه خلفه، وأصبحت فكرة العودة إلى العراق أشبه بالعودة إلى الجحيم، ومن كان يحصل على بطاقة سفر وإذن لجوء كمن انفتحت له ليلة القدر، لكن العراقي حتى لو وضعته في الجنة، يحدثك دائماً عن جنّته في الأرض: بغداد.اجلس إلى عراقي، وبخاصة إذا كانت فيه لمسة شعرية، وحدّثه عن شارع أبي نُواس، وشارع المتنبي «شارع الكتب»، وغنِّ له شيئاً من ناظم الغزالي، أو سعدون جابر، وانظر كيف تسقط دموعه.لقد ذهب هؤلاء العراقيون من شعراء وكتّاب في التسعينات إلى ملاذاتهم الأوروبية، على الرغم منهم، وما من عراقي إلاّ ويحمل في حقيبته شيئاً من بلاده، على الأقل يحمل الذاكرة.في التسعينات، في عمّان، عرفت عن قرب الكثير من هؤلاء الشفّافين «الغنائيين»، و«الشعريين» حتى العظم كما يقولون، عاضّين على آلامهم، وحرّاساً لكراماتهم، وحتى عندما كان الواحد من هؤلاء العراقيين النظيفين يقف على باب سفارة لكي يحصل على بطاقة لجوء إلى بلد أوروبي كان يقف ورأسه مرفوع.في تلك الفترة تعرفت في عمّان إلى الشاعر العراقي جان دمّو، رجل في أواخر الخمسين من عمره آنذاك حين التقيته في شتاء عام 1995، عجوز في صورة طفل أشيب في قميص نحيل. ساخر كبير، والدنيا دائماً وراء ظهره.قلت لجان دمّو: سمعت أنك تجنّدت في الجيش العراقي الذي كان يرابط في قرية المفرق الأردنية قبيل حرب حزيران، فقال لي: «تجنّدت مدة سنة ونصف، كانت البندقية ثقيلة جداً، وربما أطول منّي». وبيني وبين نفسي تساءلت عن شاعر في طبيعة جان دمّو يحمل بندقية أطول منه، ويريد تحرير فلسطين، قبل أن يحرر نفسه من العدم.نجح جان دمّو في الحصول على لجوء إلى آخر الأرض: أستراليا. من كركوك، مروراً بعمّان، وانتهاء في ملبورن. تلك كانت رحلة عوليس البرّ صاحب المجموعة الوحيدة «أسمال»، جان دمّو، الآشوري الأقصر من بندقية. yabolouz@gmail.com

مشاركة :