في ظل تصاعد أعداد الإصابات بفيروس كورونا، وانهيار الاقتصاد، أثبت ترامب فشله في إدارة الأزمات. يُعتبر إقدام رئيس أميركي على شن حرب في مكانٍ ما من العالم للفوز في انتخابات يظن أنه خسرها جزءاً من السيناريوهات المألوفة، لكنّ إقدام رئيس أميركي على التهديد بشن حرب ضد المدن الأميركية لتغيير نتائج حملته الانتخابية تصرف غير مألوف بأي شكل! لم يكن هذا النهج مألوفاً حتى الآن على الأقل، وسط دخان الغاز المسيل للدموع، يرمي عناصر مجهولون من الشرطة الفدرالية المُجهّزة بمعدات المعركة قنابل صاعقة نحو حشود الناس، ويعتقلون المحتجين في الشوارع ويحتجزونهم من دون مذكرات توقيف تبدو الفيديوهات التي تُصوّر انتشار القوات المسلّحة في الولايات المتحدة أشبه بمشاهد من لعبة الفيديو القتالية Call of Duty، لكنها حقيقية هذه المرة. نشر دونالد ترامب قوات فدرالية من وزارة الأمن الداخلي كأنها نوع من الميليشيا الرئاسية في "بورتلاند" على الساحل الغربي، حيث يستعمل العناصر قوة مفرطة ضد مناصري حركة "حياة السود مهمة" خلال الاحتجاجات القائمة في المدينة منذ أسابيع. في الحالات العادية، تُستعمل قوى الأمن المدججة بالسلاح في عمليات مكافحة الإرهاب أو ضد مهرّبي المخدرات حصراً. لا تحمل هذه القوى أي شارات وتفتقر مركباتها إلى لوحات الترخيص. وتتصدى مئات الأمهات سلمياً للسلطات كل يوم. تسمّي هذه المجموعة نفسها "جدار الأمهات" وتنشد شعارات "نرجوكم لا تطلقوا النار علينا" وأغاني للأطفال، لكنّ قوى الأمن لا تعطيها أي اعتبار. كل ليلة، تتعرض الأمهات للغاز المسيل للدموع ويتم اعتقالهنّ ومعاملتهنّ بعنف. من الواضح أن الرئيس الأميركي، الذي أصبح متأخراً جداً عن مرشح الحزب الديمقراطي ومنافِسه جو بايدن في جميع الاستطلاعات تقريباً، يتخذ خطوات لم يسبقه إليها أيٌّ من أسلافه: هو يغزو المدن الأميركية! أعلن ترامب: "سنقوم بأمر معيّن. تخضع مدن نيويورك وشيكاغو وفيلادلفيا وديترويت وبالتيمور لحكم الديمقراطيين الليبراليين، أي اليسار المتطرف. وإذا فاز بايدن بالرئاسة، فسيكون مصير بقية البلد مشابهاً. سيذهب البلد كله حينئذ إلى الجحيم. لكننا لن نسمح بذهابه إلى الجحيم". وتوحي حملة ترامب الرئاسية بحصول فشل تاريخي مرتقب. من الواضح أن الرجل الذي اعتبر نفسه مديراً كفوءاً بالفطرة انهار حرفياً حين واجهت الولايات المتحدة أكبر أزماتها. لقد كشف فيروس "كوفيد-19" عن مهارات ترامب الحقيقية في منصب الرئاسة، أو بالأحرى افتقاره إلى أي مهارات. في الوقت نفسه، كان هذا الوضع كفيلاً بإثارة رعب جزء من ناخبيه السابقين. واعتبر ترامب علناً أن حَقْن الناس بمواد التطهير قد يحميهم من الفيروس، ودعا جماعته إلى إبطاء الاختبارات في البلاد، لأن المشكلة بنظره لا تتعلق بعدد المصابين بل بعدد الخاضعين للاختبارات. اليوم، يقترب عدد الوفيات بسبب فيروس "كوفيد- 19" في الولايات المتحدة من عتبة 150 ألف. وبسبب الوباء، أصبح نحو 30 مليون أميركي عاطلين عن العمل، وحُرِم 5 ملايين من تأمينهم الصحي. وفي ظل تصاعد أعداد الإصابات وإعاقة النهوض الاقتصادي، بدأ الركود يستنزف الطبقة الوسطى الأميركية بدرجة متزايدة. حرب مقدسة كان يمكن أن تتحول أزمة الفيروس إلى فرصة إيجابية يستعملها ترامب كي يثبت أنه رئيس قادر على معالجة الأزمات بطريقة تتجاوز السياسات الحزبية الضيقة. لكنه اتخذ توجهاً معاكساً بالكامل حوّل ترامب المعركة ضد الفيروس إلى حرب مقدسة يحمل فيها قناع الوجه أهمية رمزية كبرى. طوال أشهر، رفض الرئيس وضع قناع على وجهه. كانت الرسالة التي يريد توجيهها واضحة: وحدهم الليبراليون الضعفاء يضعون الأقنعة لأنهم يتأثرون بالحملة الدعائية التي تُروّج لها أشهر وسائل الإعلام اليسارية تكثر الفيديوهات المنتشرة على شبكة الإنترنت، حيث يدافع مناصرو ترامب الغاضبون عن حقهم في التسوق من دون وضع أي أقنعة على وجوههم. لكن سرعان ما انقلبت عليه حملته الهجومية ضد القناع. امتنع عدد كبير من حكّام الولايات، لاسيما في المعاقل الجمهورية، عن فرض تغطية الوجه على الناس خوفاً من مناصري ترامب المتشددين. لكن أدى هذا الموقف المتهور إلى انفجار أعداد الإصابات في مقاطعة "جيفرسون" على طرف "نيو أورلينز" مثلاً. اجتاحت الموجة الأولى من الوباء تلك المقاطعة في شهر مارس الماضي. لكن نجحت العمدة سينثيا لي شينغ في تخفيض أعداد الإصابات الجديدة بدرجة ملحوظة عبر فرض إقفال تام في أنحاء المنطقة. تقول شينغ: "شعرتُ بأننا نجحنا في السيطرة على الفيروس". لكن بعد إعادة فتح الشركات والمطاعم، ارتفعت أعداد الإصابات مجدداً، ويتعلق السبب جزئياً برفض الكثيرين وضع القناع على وجوههم. اليوم، أصبحت "لويزيانا" ثاني ولاية أميركية بعد "فلوريدا" من حيث سرعة تصاعد أعداد الإصابات اليومية الجديدة. لكن في أحد الأيام، ظهر ترامب جديد في قاعة الصحافة في البيت الأبيض، فقال الرجل الذي ساهم في تسييس مسألة استعمال الأقنعة أكثر من أي مسؤول آخر في الولايات المتحدة: "لا مشكلة لديّ مع الأقنعة"! لكنه استعمل هذه المرة نبرة مختلفة، فقال: "كل ما يسهم في تحسين الوضع هو عامل إيجابي". حتى انه اعترف بأنه يحمل قناعاً خاصاً به ويضعه على وجهه في المصاعد. ومن الواضح أن ترامب الجديد يقرأ ما كتبه الآخرون له بأسلوب لامبال، إنه ترامب الذي ظهر بشكلٍ أساسي خلال الحملة الانتخابية في عام 2016، حين ظن مستشاروه أن إخفاء ترامب الحقيقي هو أفضل حل. يتعلق أكبر مفهوم خاطئ عن ترامب قبل انتخابه رئيساً للبلاد على الأرجح باعتباره مديراً بارعاً رغم خبرته المحدودة في مجال السياسة، ما يعني أنه رجل أعمال ناجح وملياردير صنع نفسه بنفسه ويجيد عقد الصفقات. لكن كان ذلك الاعتقاد خاطئاً، حتى في تلك الفترة. لم يكن ترامب يوماً ناجحاً جداً في قطاع الأعمال. بل إنه ورث جزءاً كبيراً من ثروته (أكثر من 400 مليون دولار) من والده. تذكر صحيفة "نيويورك تايمز" أن شركاته تكبدت خسائر بقيمة مليارات الدولارات خلال الثمانينيات والتسعينيات فقط. ثم تدخّل "دويتشه بنك" الألماني بدءاً من التسعينات فقدّم قروضاً بمليارات الدولارات قبل وقتٍ طويل من وصول ترامب إلى الرئاسة. كذلك، أفلس عدد كبير من شركاته، بما في ذلك ثلاثة كازينوهات في "أتلانتيك سيتي" وفندق "بلازا" في الجادة الخامسة في نيويورك. وأصبحت قصص المتعاقدين والمقاولين الفرعيين الذين لم يدفع لهم ترامب أموالهم معروفة. لكن وحده "كورونا" كشف حقيقة ترامب وجرّده من صفاته الإنقاذية المزعومة، فأصبح الإغفال عن إفلاسه كرجل أعمال وسياسي ورئيس للبلاد مستحيلاً. ومرّت شركات الكازينو التي يملكها الرئيس بإجراءات الإفلاس أربع مرات. تغيّر مالكو اثنَين من كازينوهات ترامب ولايزال الثالث فارغاً، وهو "ترامب بلازا" في منطقة "بوردووك" المشهورة بالكازينوهات انهارت أجزاء من الواجهة البيضاء، وأصبحت الأرض مسيّجة منعاً لوقوع أي إصابات. من المنتظر أن يُهدَم المُجمّع في السنة المقبلة. لم يعد أحد يتكلم عن لاس فيغاس في هذا المكان. وخلال هذه السنة، اتضحت قلة كفاءة ترامب للمرة الثانية. بما أنه لم يأخذ الوباء المستجد على محمل الجد، ارتفعت أعداد الإصابات بدرجة مخيفة. اضطرت الكازينوهات في "أتلانتيك سيتي" لإقفال أبوابها، وأصبح الكثيرون في إجازة منذ ذلك الحين. نتيجةً لذلك، لم يبقَ للرئيس إلا الغضب الذي يلازمه. حتى الآن، لم ينقلب أي سياسيين جمهوريين رفيعي المستوى ضد ترامب. لم يعارضه بعض أعضاء مجلس الشيوخ إلا في موضوع أقنعة الوجه وطريقة احتواء الفيروس. لذا لا داعي كي يخشى الرئيس انتفاض الحزب الجمهوري ضده. حتى لو شعر جزء من أعضاء مجلس النواب ومجلس الشيوخ بالقلق من احتمال تنحيتهم مع الرئيس في الخريف المقبل، إلا أنهم لا يملكون الجرأة الكافية لمعارضته، لأنه يتمتع بشعبية واسعة حتى الآن على المستوى الشعبي. لكن انقلبت مجموعة صغيرة من الجمهوريين ضد ترامب والحزب كله وأطلقت معركة شرسة. أصبح "مشروع لينكولن" أبرز منظمة معادية لترامب، وهو يخضع لإدارة خبراء استراتيجيين جمهوريين سابقين يُغرِقون شبكة الإنترنت بفيديوهات تستهدف الرئيس. ويقول مايك مدريد، مستشار سياسي جمهوري وأحد مؤسسي "مشروع لينكولن": "لقد تحولنا إلى حركة اجتماعية"! حضر أكثر من 10 آلاف مناصر أول اجتماع افتراضي للمجموعة منذ أسبوعين. لكن ألا تُعتبر هذه الحركة مجرّد مجموعة تكره ترامب وترفض التصويت له في مطلق الأحوال؟ تقول المديرة التنفيذية في "مشروع لينكولن"، سارة لينتي: "استناداً إلى البيانات التي جمعناها، نعرف أن ثلث من دعمونا هم جمهوريون ملتزمون". خلال الربع الماضي من السنة، جمع هذا المشروع 16.8 مليون دولار وجاءت معظم المبالغ من جهات مانحة صغيرة. ربما ينجم رواج هذه الحركة أيضاً عن الطابع المباشر والعدائي الذي تحمله فيديوهات "مشروع لينكولن"، بما يوازي عدائية ترامب مع خصومه. يوضح مدريد: "قالت ميشيل أوباما إن الديمقراطيين لن ينزلوا إلى مستوى ترامب. إنه خطأ تكتيكي. إذا أراد ترامب أن يصل بمستواه إلى الحضيض، يسرّنا أن نرحّب به هناك". المشكلة في الاقتصاد! يكفي أن تمتنع نسبة صغيرة من الناس عن الاقتراع أو تُغيّر انتماءها السياسي في الولايات التي تحتدم فيها المنافسة، مثل "ويسكونسن" أو "أريزونا"، كي يجد ترامب صعوبة في إعادة انتخابه. وبما أن بايدن هو المرشح الديمقراطي، من الأسهل على الناخبين الجمهوريين المعتدلين أن يعارضوا ترامب، لاسيما بعدما خسر الرئيس الآن أهم حجة في حملته: الاقتصاد المزدهر. قبل ظهور فيروس كورونا، اقتصرت نسبة البطالة في الولايات المتحدة على 3.5 في المئة، وهي الأدنى منذ الستينات. وفق تقديرات معهد "أسبن" (منظمة بحثية أميركية بارزة)، قد يضطر 20 مليون مستأجر في الولايات المتحدة لإخلاء منازلهم بين هذه الفترة ونهاية سبتمبر المقبل. صحيح أن الحكومة الأميركية فرضت تعليقاً جزئياً على قرارات الإخلاء وحبس الرهن خلال الأزمة، لكن تنتهي تلك الضوابط هذا الأسبوع. كذلك، ستنتهي تدابير ومساعدات أخرى قريباً. قد تكون عبارة "المشكلة في الاقتصاد يا أغبياء!" الأشهر على مر الحملات الانتخابية الأميركية، فهي تعكس الفكرة القائلة إن أي مرشح لا يستطيع التغلب على الأرقام الاقتصادية السيئة. تُنسَب هذه العبارة إلى جيمس كارفيل، الخبير الاستراتيجي السياسي الذي ساهم في توجيه حملة بيل كلينتون الانتخابية الناجحة في عام 1992 ضد جورج بوش الأب. لم يكن فشل هذا الأخير في الفوز بولاية ثانية يتعلق فعلياً بقوة كلينتون، بل بالركود العالمي. كان بوش الأب آخر رئيس أميركي يفشل في الفوز بولاية ثانية. قد يواجه ترامب المصير نفسه. في مقابلة تلفزيونية جديدة، أعلن كارفيل الذي لايزال مُعلّقاً سياسياً له شعبية واسعة أنه متأكد من انهيار فرص إعادة انتخاب ترامب في يناير المقبل. انهيار سريع... تعافٍ بطيء! يدرك مؤيدو ترامب أنه لن يفوز من دون خطة حيوية تضمن التعافي من الانهيار الاقتصادي الذي سبّبه الفيروس، لكن يبدو الوضع سيئاً في الوقت الراهن. في الأسابيع الأخيرة، سجلت الولايات المتحدة أعداداً قياسية جديدة ومؤسفة من الإصابات اليومية. مع ذلك، يستطيع أحد السيناريوهات الاقتصادية أن ينقذ ترامب: يجب أن يمدّد الرئيس والكونغرس المساعدات الطارئة ومدفوعات التحفيز إلى ما بعد شهر يوليو، ويبدأ الاقتصاد التعافي قبل موعد الانتخابات. إنه احتمال ممكن لكنه مستبعد. سجّل سوق العمل الأميركي نمواً مدهشاً بمعدل 4.8 ملايين وظيفة في يونيو الماضي، لكنه يبقى أقل من أرقام شهر فبراير بـ15 مليون وظيفة. تشير تقديرات مكتب الميزانية في الكونغرس إلى عدم تعافي الاقتصاد الأميركي بالكامل من تداعيات الوباء قبل عام 2028. تتوقع هذه الوكالة أيضاً أن تحافظ نسبة البطالة، التي تبلغ راهناً 11 في المئة، على مستوى مرتفع مقارنةً بالمعدل المُسجّل قبل الأزمة حتى عام 2030. يجب أن يتمنى ترامب إذاً حصول معجزة أو تعثّر خصمه. تتعلق أكبر نقطة ضعف لدى الديمقراطيين اليوم على الأرجح بمرشحهم للرئاسة. يبلغ بايدن 77 عاماً، وسبق أن خسر مرتين حين حاول أن يصبح المرشح الرئاسي عن الحزب الديمقراطي، وقد تعثّر بنفسه في كل مرة منهما. لم يصل بايدن إلى هذه المرحلة المتقدمة راهناً بفضل مهاراته، بل لأن الرجل الذي يحمل لقب "العم جو" داخل حزبه هو الشخص الذي يستطيع معظم الناس التعايش معه بصفته مرشح الحزب الديمقراطي. لا شيء يضمن حتى الآن تفوقه على ترامب الذي أثبت في مناسبات متكررة براعته في خوض المعارك. لطالما تميّز ترامب بقدرته على بث الانقسامات داخل البلد على نطاق واسع. وترتكز عمليات الشرطة في المدن الأميركية على النوع نفسه من الحسابات على الأرجح. في الأسابيع الأخيرة، لم يمرّ يوم واحد من دون أن يدعو ترامب مناصريه للانضمام إلى الحرب الثقافية ضد "غوغاء يسارية" مزعومة تهدف، بالتعاون مع بايدن، إلى "تدمير تاريخنا" و"التشهير بأبطالنا". حتى ان ترامب، في خطابه الشهير في الرابع من يوليو في جبل "راشمور"، ذهب إلى حد التكلم عن نشوء "فاشية يسارية متطرفة جديدة" في الولايات المتحدة، وزعم أنه الشخص الوحيد القادر على كبح هذه النزعة. كما أعلن أن اليساريين لا يصرّون على تدمير تماثيل الجنرالات الجنوبيين الذين دافعوا عن العبودية في الماضي فحسب، بل إنهم يهدمون أيضاً تماثيل رؤساء تاريخيين من أمثال جورج واشنطن وتوماس جيفرسون لأنهم كانوا يملكون العبيد. يوحي الوضع أحياناً أن التماثيل هي محور اهتمام ترامب، فقد أعلن إنشاء حديقة للتماثيل، وعبّر عن رغبته في استعمال عدد منها خلال تجمعاته الانتخابية. لكن توحي الظروف الراهنة أن المسؤول الذي أصبح مُهدداً أكثر من أي شخص آخر هو ترامب نفسه!
مشاركة :