طالعتني على مدى الأسابيع القليلة الماضية الكثير من المقالات التي تتحدث عن عزم الديمقراطيين التركيز على الجانب الديني وإيلاء اهتمام أكبر للناخبين البيض الأنجيليين والكاثوليك. لقد نشرت تلك المقالات على إثر صدور نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة التي أظهرت نتائجها أن هناك أغلبية في هاتين الجماعتين المسيحيتين, تعتبر أن الرئيس الحالي دونالد ترامب «لا يتحلى بالسمو الأخلاقي» كما أنها ترفض تصرفاته وتختلف مع السياسات التي ينتهجها وخاصة تلك التي تتعلق بالهجرة والضرائب. لعل هذه النتائج توحي بأنه لو أصبح الديمقراطيون يتحدثون علنا عن الدين فإنهم قد يستقطبون جانبا من هؤلاء الناخبين البيض الأنجيليين والكاثوليك الذين يدلون بأصواتهم لفائدة الرئيس دونالد ترامب. أنا أوافق الديمقراطيين فيما يتعلق بضرورة مد الجسور مع الناخبين البيض لكني لست مقتنعا بأن تحقيق مثل هذا الهدف يتطلب إيلاء اهتمام أكبر بالبعد الديني. إن هذا التوجه الذي يدفع البعض باتجاهه, والذين يرون في الدين ترياقا, لا يدرك أصحابه تلك القطيعة ما بين القيم من ناحية وسلوك الناخبين من ناحية أخرى. هذا هو السبب الوحيد الذي جعل نفس استطلاعات الرأي التي نشرت نتائجها مؤخرا تظهر أن هناك أغلبية صريحة في صلب نفس البيض المسيحيين والذين يعتبرون أن «الرئيس ترامب يكافح من أجل تكريس القيم والمبادئ التي يؤمنون بها», وهو ما يجعلهم يؤكدون أنهم سيصوتون لإعادة انتخابه في شهر نوفمبر القادم. إن أغلب البيض لا يدعمون الرئيس ترامب بسبب قناعاتهم الدينية أو «أخلاقه» بقدر ما يمنحونه أصواتهم ويدعمونه نظرًا إلى اعتقادهم الخاطئ بأنه يأبه بهم ويهتم لأمرهم ويوفر لهم الرعاية. أعتقد أنه من السهل التسرع في الحديث عن الأبعاد الثقافية مثل العرق والاجهاض والحقوق واعتبارها السبب الرئيسي الذي يجعل أغلب الناخبين البيض يؤيدون دونالد ترامب. صحيح أن بعض الجماعات التي تدعم دونالد ترامب عنصرية أو مناهضة لمسألة الإجهاض لكن من الأهمية بمكان أن ندرك أن أغلب الأمريكيين يهتمون في الحقيقة بمثل هذه القضايا وهي تعكس في الحقيقة مشاكل أكثر عمقا ظلت تقض مضجع الكثير من الأمريكيين. إن أغلب المشاكل تنبع من أسباب تتعدى الثقافة, وهي تعتبر نتاجا لحالة التفكك السياسي والاجتماعي، وهو ما جعل الكثير من الناخبين الأمريكيين لا يشعرون بالأمان، الأمر الذي جعلهم يصبحون فريسة سهلة للأطراف التي تستغلهم لخدمة أجنداتها السياسية والانتخابية. لذلك عندما يلح المستشارون على الديمقراطيين كي يتحدثوا أكثر عن الرب أو يتطرقوا في حديثهم عن أمهات القضايا باستخدام لغة تطغى عليها المفردات الدينية من أجل كسب أصوات هؤلاء الناخبين البيض فهم يخطئون حتما في تقدير الأمور. ليست هذه المرة الأولى التي يرتكب فيها الديمقراطيون مثل هذا الخطأ. فبعد أن فاز تيم كاين، وهو كاثوليكي ورع، بمنصب حاكم ولاية فرجينيا، قال أحد قادة الحزب الديمقراطي ان «الفوز الذي حققه تيم كاين يؤكد أنه يتعين علينا أن نولي اهتماما أكبر للجانب الديني في حديثنا عن القضايا». ظل نفس هذا الزعيم الديمقراطي يتحدث في الحوارات التي أجريت معه بعد ذلك طيلة أشهر معدودة، ويكثر من الحديث عن الدين والرب... وبما أن مثل ذلك الخطاب كان جديدا بالنسبة إليه فقد أعطى الانطباع لكل من كان يسمعه وكأنه يتحدث لغة أجنبية غريبة عنهم، في نهاية الأمر أثرت هذه المسألة بنفسي وقلت مخاطبا الحضور: «لم يفز تيم كاين لأنه تحدث أكثر عن الدين بل إنه فاز لأنه كان صريحا وصادقا وبعيدا عن التكلف. عندما كان يخاطب الناس ويحدثهم عن العقيدة كان كلامه حقيقيا وصادقا وخاليا من التصنع وهو ما جعل الناخبين يصدقونها وينتخبونه. أما عندما يتحدث الآخرون عن الدين فإن خطابهم الديني يأتي مهزوزا ومتصنعا وغير صادق. لذلك يجب أن نكون على طبيعتنا الحقيقية. هذا هو الأهم في نظر الناخبين». في سنة 2016 اندهشت كثيرا عندما نجح بيرني ساندرز في كسب أصوات كثير من الناخبين البيض من أبناء الطبقة العاملة دون أن يضطر للخوض في الدين. أما هيلاري كلينتون، وعلى العكس من بيرني ساندرز، فقد راحت هيلاري كلينتون تتحدث عن نشأتها الدينية ولم تتمكن بذلك من كسب ثقة الناخبين. أكدت نتائج استطلاعات الرأي بعد ذلك تلك الانطباعات لأن بيرني ساندرز كان صادقا مع نفسه على عكس هيلاري كلينتون التي سقطت في التصنع والزيف. إن المشكلة أعمق بكثير من الكلمات التي نستخدمها، لأن الأمر مرتبط برمته بالأزمات المتعددة التي تواجه الناخبين اليوم، فعلى مدى الستة عقود حتى اليوم ظل الكثير من الأمريكيين البيض من أبناء الطبقتين الوسطى والعاملة (وهو ما يحيلنا إلى العامل الديمغرافي) يشعرون بأنهم قد فقدوا السيطرة على حياتهم. فالقيم التي تربوا عليها والتي يأملون أن يغرسوها في أبنائهم قد أصبحت مرفوضة من الثقافة السائدة (مثلما أنها مرفوضة من الكثير من أطفالهم أيضا)، علاوة على حالة التفكك الاقتصادي والاجتماعي, التي نتجت عن عوامل عديدة مثل إفلاس المصانع وضياع فرص العمل في المناجم, وهي عوامل تضافرت كي تولد هذه الأزمة الحقيقية التي يعيشها الأمريكيون اليوم. أين تلك الأحياء التي كانت في الحقبة الماضية مزدهرة وينعم سكانها بالرخاء, قد تتحول اليوم إلى أرض يباب خاوية على عروشها. أما تلك المدن التي نمت في الماضي في خضم النهضة الصناعية فقد أصبحت عنوانا للخراب, انهارت المدن والأحياء وتدهورت الظروف المعيشية وتقلصت الحركة الاقتصادية وقلت الفرص المتاحة لأبناء الطبقة الوسطى، كما تفاقمت الضغوط وتراكمت المشاكل والأزمات التي باتت تهدد اليوم استقرار ونسيج العائلات والجماعات. إذا أردنا أن نعبر عن الوضع بلغة شاعرية فإننا سنقول إن البيض من أبناء الطبقتين الوسطى والعاملة قد أصبحوا يشعرون اليوم بالضياع في بحر متلاطم الأمواج. في خضم الأزمات المتفاقمة أصبح البعض يلجؤون إلى الأصولية الدينية عساهم يجدون فيها الترياق الذي يساعدهم على إعادة ترتيب حياتهم ويشعرهم ببعض الأمان ويجلي عنهم بعض الغموض الذي يلفهم. فهم يشعرون اليوم بالهشاشة وعدم الطمأنينة في خضم القوى والعوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تهدد بتقويض حياتهم وأسلوبهم في العيش. هذه العوامل هي التي جعلتهم اليوم أكثر تجاوبا مع الخطاب والرسائل ذات المضامين الدينية المحافظة والتي تتغذى من المخاوف التي تعشش في حياتهم. لقد برع الجمهوريون على وجه الخصوص في العزف على أوتار الخوف واستغلال شعور الناس بعدم الأمن والاطمئنان.إنهم ينحون باللائمة في ذلك على ما يعتبرونه امتيازات حصلت عليها الأقليات, كالوظائف التي أخذها منهم المهاجرون, كما يعتبرون أن الأوضاع لتي يعيشونها سببها تفاقم الجريمة والعنف في مجتمعهم. إنهم ينحون باللائمة أيضا على النخب الثرية التي تسكن في المناطق الساحلية والتي لا تهتم إلا بالعمل على تحقيق أجنداتها الاجتماعية الخاصة، ويرون فيها سبب ما يعيشه أبناء الطبقة العاملة من تجاهل وتهميش. إن الحزب الجمهوري يتغذى بطبيعة الحال من مثل هذه الانطباعات السلبية، وهو ما أكده لي قبل أكثر من عقد من الزمن أحد الاستراتيجيين الجمهوريين. فقد قال لي يومها: «إننا نشعل هذه القضايا مثل تلك الأشياء اللماعة، فقط من أجل كسب أصوات الناخبين».لعل ما يزيد الوضع سوءا أن الكثيرين من البيض من أبناء الطبقة العاملة يعتبرون أن الحزب الذي ظلوا يدعمونه قد همشهم وتخلى عنهم. إنهم يعتبرون أن الحزب الديمقراطي بات اليوم يهتم بمشاكل الآخرين أكثر مما يكترث لهمومهم. هكذا انقلبت المعادلة رأسا على عقب وأصبح الحزب الجمهوري في نظر هؤلاء هو الذي يهتم بمشاغل الناخبين ويعتبر البيض من أبناء الطبقة العاملة أن الحزب الديمقراطي هو حزب النخبة والذي ينظر إليهم من عليائه بعد أن همشهم وتخلى عنهم. بعد الانتخابات الرئاسية التي أجريت سنة 2016 أجريت نقاشات عن اللغة المستخدمة في برنامج الحزب الديمقراطي بشأن الإجهاض مع بعض رجال الدين الكاثوليك التقدميين وقد قالوا لي «لقد خسرنا بسبب ذلك البرنامج». لقد اختلفت معهم في الرأي وقلت لهم أن «هزيمتنا الانتخابية لم تكن ناجمة عن اللغة المستخدمة في برنامجنا الانتخابي. لقد كانت تلك اللغة التي استخدمناها مؤشرا على هزيمتنا». في الحقيقة ان الديمقراطيين ليسوا في حاجة إلى المزيد من الكلام عن الرب بقدر ما هم في حاجة إلى الإحساس بأولئك الذين ظلوا طويلا يتجاهلونهم. يجب ألا يقتصر الأمر على بناء الجسور معهم بل يجب العمل على معالجة المشاكل التي تشغل بال الناخبين واعتبارهم شركاء وجعلهم يشعرون بأنهم محترمون وأنهم في بيتهم وليسوا بالتالي غرباء في ديارهم. هذه ليست بالسياسة التي يمكن أن تحقق النجاح. من الأهمية بمكان ان يعمل كل ديمقراطي على الخوض في القضايا الحيوية التي تتعلق بالعرق والمساواة واحترام الحقوق، مع تركيز الاهتمام أيضا على ما تكبده البيض من أبناء الطبقة الوسطى والعاملة من خسائر وما يساورهم من مخاوف، وما يتمنونه من طموحات.بدلاً من اللجوء إلى أسلوب ترامب الذي يستخدم الغضب والخوف من الآخر ويزرع الانقسامات فإنه يجدر بالديمقراطيين أن يتحدثوا لكل الناخبين من خلال طرح رؤية متكاملة تلهمهم وتشركهم وتزرع فيهم الأمل في المستقبل.{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
مشاركة :