لا أحد يستطيع أن ينكر على الرئيس الفلسطيني محمود عباس شجاعته. إنه شجاع في الحق، وشجاع في الباطل أيضا. شجاعته في الحق واضحة لكل من يعرف موقفه الصلب من حقوق شعبه الوطنية. صحيح، أنها حقوق الحد الأدنى، كما يُقال، إلا أنها هي الصخرة الأخيرة التي يريد أن يعرج منها كواحد من آخر بقايا الرموز الوطنية الكبرى. رموز الرعيل الأول. أو رعيل كل التقلبات التي عرفتها القضية الفلسطينية. تستطيع أن تجادل في خياراته، ولكنك لا تستطيع أن تجادل في أن هذه الخيارات هي كل ما بقي في معادلة الممكن، وأنها قاسم مشترك عريض، وسواء آمن بإمكانية تحقيقها بالفعل أم لا، فإنه يمسك بها بكل ما أوتي من قوة، ويقف حيالها وقفة رجل شجاع، مستعد لمواجهة كل العواصف التي تحيط به. حتى أنه تمسك بالمغامرة عندما قام بطرد الولايات المتحدة، بجبروتها كله، من معادلة السلام. ورفض حتى أن يتلقى مكالمات من أي مسؤول أميركي، بمن فيهم الرئيس دونالد ترامب ونائبه ووزير خارجيته. ليكشف عن أن للحق قوة من نفسه، وأنه حتى وإن لم يكن يملك دبابات ولا صواريخ ولا طائرات ولا أموالا، فإنه قادر على أن يقول للقوة العظمى في العالم، لا. وأن يهددها بالسقوط على الحواشي، وأن يُظهر لها أنها، كما كل قوة غطرسة أخرى في التاريخ، يمكن أن تسقط بتمرد الهامش على المركز. إلا أنه شجاع في الباطل أيضا. أمام شهود من كل أرجاء العالم، خاطب الرئيس عباس الدول الأعضاء في مجلس الأمن في 11 فبراير الماضي، ليقول لهم إنه يتحدى الجميع بأن يعثر أحد على أي مظهر من مظاهر الفساد في دولته. العالم لم يتحداه. ربما لسبب أو لعكسه. ولكن شعبه لم يقتنع. معضلة الفلسطينيين، معضلة. فهم حتى وإن رأوا الفساد، ما كانوا ليجرؤوا على تحدي التحدي. ليس أمام العالم، على أي حال، خوفا على طهر قضيتهم من أن يتلوث بمجادلات. حتى ليقول قائلهم: مش ناقصين بلاوي. ولكنهم يدفعون الثمن أيضا. فهناك فساد. وهو كثير إلى درجة تقترب من حد الفضيحة. جانب كبير من مكانة القضية الفلسطينية يتصل بطهرها. وجه القدسية فيها لا يقتصر على أنها قضية أرض مقدسة، وإنما رجالها ونساؤها الطهر الذين قدموا من أجلها أرواحهم رخيصة على طول الخط. المنافع، المصالح والامتيازات، لم تظهر إلا مع ظهور “الدولة” أو مشروع الدولة الفلسطينية في بعض الأراضي المحتلة. وكانت تلك صناعة قائمة بذاتها، قصدت أن تجعل تلك الدولة “طبيعية” كغيرها من الدول التي يمكن أن تباع وتشترى ويكون فيها مسؤولون فاسدون يمكن التحكم فيهم. هذه الدولة “الطبيعية” هي القائمة الآن. وهي التي يُنكر الرئيس عباس أن فيها فسادا. سوى أن شعبه يراه، ويدفع ثمنه. عيب على أي أحد، أن يربط ما بين الرئيس عباس وبين أي مظهر من مظاهر الفساد. ولكن عيب على مستشاريه أن يجعلوه بعيدا عن رؤية الصورة على حقيقتها، بينما يستطيع كل عبد فقير لله أن يسرد له ولهم من الأدلة والشهادات والوقائع ما يكفي لكي يزكم الأنف. هناك مصالح، وهناك امتيازات، وهناك سوق لهذا الشيء وذاك، وتأتي معه ارتباطات، لا طهر فيها على الإطلاق. يبدو الأمر “طبيعيا” كما هو الحال في كل مجتمع، وكما في كل دولة تفتقر إلى مؤسسات راسخة وسلطة قانون متينة، وما يزال الكثير من بنيانها تجريبيا. ولكن الحقيقة هي أن القضية الفلسطينية لا تصلح، بسبب من طبيعتها بالذات، أن تكون “طبيعية” على هذا النحو. هناك دولة، تجريبية ومؤقتة، ولكن هناك قضية. القدسي يحسن ألا يتلوث بفساد أي تكوينات ولا مصالح أي فئة أو مجموعة بشر من ذوي المصالح الخاصة تُفرزهم تلك الدولة. “الثورة” لم تنته بعد. إذا شئت أن تأخذ بهذا النوع من الكلام. لأن القضية ما تزال في أول الطريق، ودماء التضحيات ما تزال حارة. والجرح ما يزال غائرا في الأرض وفي النفوس. وآخر ما تحتاجه قضية في هذا الوضع هو أن تنشأ على أطرافها أو في مركزها كائنات فساد. ما من أحد يمكنه أن يجني من ذلك شيئا. حتى الفاسدون أنفسهم. ففي وضع متفجر كالذي يعيش فيه الفلسطينيون، لا شيء يمكنه أن يظل راسخا، بما في ذلك المصالح والامتيازات. كل شيء يمكن أن يضيع في صحوة أخرى من صحوات الزمن. الفساد بهذا المعنى، لا قيمة فيه. ليس لأنه يمكن أن يضيع بأول انفجار، بل لأنه يضع صاحبه على حافة الشبهات دائما. وهذا كثير في بيئة ملتهبة. السلطات الفلسطينية تعتقل الآن عددا من الناشطين الذي يطالبون بمكافحة الفساد. ومنعتهم من التجمع في رام الله. واندفع بعضهم ليستخدم السلاح نفسه الذي يستخدمه المعتقلون الفلسطينيون لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي: الإضراب عن الطعام. مفهومة الذريعة طبعا. فأجهزة السلطة، لا بد وأن تكون أقنعت نفسها، بأن أي حراك شعبي ضدها، هو حراك لا يخدم “القضية”. من دون أن تسأل نفسها، “أي قضية، على وجه الحقيقة؟” السلطة التي تحمي الفساد، لا يمكنها أن تدافع عن أي قضية. وعندما يتحول إلى جدول أعمال، ويهيمن على مشاغل أهل المصالح، فللفلسطينيين الحق بأن يقرأوا على “القضية” السلام. الشجاعة نفسها كانت تتطلب تشكيل لجنة تحقيق وطنية في قضايا الفساد. وليس اعتقال الذين يطالبون بمكافحته. قضية بُنيت على قدسية وطهر، لا تخدمها حتى وجود شبهات بأي نمط من أنماط الفساد. فما بالك وقد أصبحت فضيحة؟ فما بالك وقد أصبحت عارا تستخدمه إسرائيل لتشويه الحقوق الفلسطينية وتشويه المدافعين عنها؟ الكيان الفلسطيني التجريبي لن تقوم له قائمة إذا ما ألقاه أهل المصالح والامتيازات في مستنقع الفساد. الصراع نفسه بين الطهر والفساد، صراع زائد عن الحاجة. الفساد الذي يقصد جني المال، ليس هو القضية. ولا يصح أن يكون شغلا من مشاغل السلطة الفلسطينية، لأنه وجه آخر للعدو الذي كان يجدر بها أن تكافحه من الأساس، وأن تنأى بنفسها عنه، كما ينأى المظلوم عن ظالمه. ولأنه مشروع للهزيمة المنكرة حيال إسرائيل، يهين ويسخر من الدم الحار.
مشاركة :