صراع النماذج بين واشنطن وبكين

  • 7/30/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يوماً بعد آخر تزداد رقعة الصراع بين واشنطن وبكين. إغلاق قنصلية الصين فى هيوستن بزعم أنها وكر للتجسس الصناعى، قابله إغلاق القنصلية الأمريكية فى شنغدو فى غرب الصين رداً بالمثل. تصريحات الرئيس ترامب حول فيروس كوفيد 19 باعتباره فيروساً صينياً أصاب بلاده والعالم، وإن كان يهدف إلى التغطية على الفشل الأمريكى فى مواجهة الوباء، فهو أحد مظاهر التوتر المتصاعد فى علاقات البلدين، ودلالة بارزة على أن واشنطن فى عهد ترامب استقرت على أن الأولوية الاستراتيجية هى مواجهة الصين وتقليم أظافرها التى باتت تمتد فى كل مكان. لكنه خيار يتطلب تغيرات كبرى فى السلوك الأمريكى تجاه الحلفاء والأصدقاء الذين يشعرون بخيبة أمل كبرى من الصدمات التى تلقوها على يد الرئيس ترامب فى السنوات الأربع الماضية، حيث أضعف «الناتو» وأثار الشكوك حول الالتزام بأمن أوروبا واستقرارها، وتجاه الكثير من الحلفاء الإقليميين الكبار الذين طالما رأوا فى الولايات المتحدة صديقاً يعتمد عليه وقت الشدائد. فضلاً عن الانسحاب من المعاهدات الدولية الجماعية، وإضعاف المؤسسات الدولية التى تمثل أسس النظام الدولى وأعمدته التى يرتكز عليها. ليس واضحاً بعد كيف ستعيد إدارة الرئيس ترامب هيكلة سياستها الخارجية بما يتناسب مع أولوية الصراع مع الصين إلى حد المواجهة العسكرية التى أشار إليها وزير الدفاع الأمريكى مارك إسبر، حين أكد استعداد بلاده لتلك المواجهة براً وبحراً وجواً، فى مناطق قريبة من الأراضى الصينية لا سيما بحر الصين الجنوبى. تبريرات إدارة الرئيس ترامب لمواجهة الصين تعكس قلقاً من نجاح الصين فى تمرير نموذجها السياسى والاقتصادى كقاطرة لدعم هيمنتها على النظام العالمى وقيادته. حسب وصف بومبيو وزير الخارجية الأمريكى، واحد من صقور إدارة الرئيس ترامب، فهذا النموذج الصينى يتصادم تماماً مع نموذج أمريكا فى الحرية وحقوق الإنسان والإيمان بالأديان، وهو قائم على هيمنة حزب شمولى ينتهك الحريات وحقوق الإنسان، والمصحوب اقتصادياً بتطور تكنولوجى يدعم هيمنة الحزب على سلوك الأفراد والمجتمع فى الداخل والدول الأخرى فى الخارج. فى محاضرة «بومبيو» فى مركز ومتحف الرئيس نيكسون بمناسبة مرور 50 عاماً على المباحثات السرية التى أدارها آنذاك مستشار الأمن القومى هنرى كيسنجر مع الصين الشيوعية وأدت إلى بدء علاقات بين البلدين وتطبيع وضع الصين عالمياً، دعا «بومبيو» إلى تغيير النهج الذى سارت عليه علاقات البلدين طوال نصف القرن الماضى، لأنه ببساطة أدى إلى تغول الصين عالمياً، وبدلاً من أن تحقق السياسة الأمريكية منذ «نيكسون» إلى الآن تغيير حال الصين لتصبح دولة ديمقراطية متوافقة مع القيم الأمريكية، وتحترم المصالح الأمريكية ولا تتحداها وتلتزم تحقيق المكاسب المشتركة، وتراعى حقوق الجيران، لا سيما فى بحر الصين الجنوبى، إذا بالصين -حسب «بومبيو»- تزداد شمولية واستبداداً، ويتحول الحزب الشيوعى الصينى إلى آلة قمع هائلة للمواطنين الصينيين، والذى يستغل التطور التكنولوجى لبعض الشركات الصينية للتغلغل فى بلدان أخرى وسرقة ملكياتها الفكرية. فى هذه المحاضرة صرخة لوم على قيادات أمريكا السابقين، لأنهم لم يتنبهوا إلى هذا الخطر، ولم يعطوه القدر المناسب من الاهتمام، وهو ما فعلته إدارة الرئيس ترامب، حسب قول «بومبيو». نلاحظ فى هذه المحاضرة تفريقاً بين الحزب الشيوعى الصينى الحاكم برئاسة الرئيس شى جين بينج وبين المواطنين الصينيين المقموعين، وهى رسالة بأن الولايات المتحدة، لا سيما فى حال فوز الرئيس ترامب، سوف تضع أولوية تقويض هيمنة الحزب الشيوعى الصينى على رأس أولوياتها، ومساعدة من تراهم دعاة التمرد على هيمنة الحزب وداعمى الحريات، وفضح ممارساته القمعية، لا سيما تجاه أصحاب الأديان خاصة مسلمى الإيجور. تصب هذه الرؤية نظرياً فى تقويض الاستقرار السياسى الداخلى للصين كمقدمة لضرب نفوذها الخارجى. الأمر لن يُترك للجهود الأمريكية وحدها، وحسب «بومبيو» فلابد أن تتضامن الدول الديمقراطية معاً وتشكيل تحالف الديمقراطيين بما فى ذلك دعوة روسيا لتكون عضواً فى هذا التحالف (موسكو رفضت الدعوة وأكدت حرصها على علاقات قوية مع بكين) من أجل الضغط على الصين وتقويض هيمنة الحزب الشيوعى، والإسراع فى تغيير بنية الصين الداخلية. الشركات الكبرى التى استوطنت فى الصين، وأصبحت جزءاً من سلاسل التوريد للسلع والصناعات التى تهيمن عليها الصين مدعوة أيضاً لتكون شريكاً مهماً فى الضغط على الصين، من خلال الخروج من الأراضى الصينية وفض الشراكات الاقتصادية والتجارية معها، والتوطن فى بلاد أخرى ذات طابع ديمقراطى، وبالتالى تفقد الصين أحد أهم عوامل تطورها الاقتصادى والتجارى. هذه الدعوة للتحالف مع دول وشركات كبرى لمواجهة الصين تكشف عن قناعة ذاتية بأن الولايات المتحدة وحدها غير قادرة على مواجهة الصين منفردة، وتحمل فى طياتها اعترافاً بقصور سياسات المواجهة التى اتبعتها إدارة ترامب وإدارات سابقة ركزت على توقيع العقوبات التجارية والتشويه الدعائى للنموذج الصينى. أهم عقبات تلك الدعوة لتحالف الديمقراطيين الدوليين، أنها تأتى بعد فترة انتهجت فيها إدارة ترامب كل سياسات الإذلال والتجاهل لأقرب الحلفاء سواء الأوروبيون أو الأعضاء الكبار فى حلف «الناتو»، ما يقيد عملياً فرص نجاح تلك الاستراتيجية. عنصر الثقة المفقود بين واشنطن وحلفائها يتطلب الكثير من الجهود التى تعيد تلك الثقة إلى مستويات مقبولة قبل أن يفكر الحلفاء فى التورط فى مواجهة تقودها واشنطن وترامب شخصياً وغير محسوبة جيداً. لا مؤشر بعد على أن واشنطن بنخبتها الحاكمة حالياً تعيد النظر فى إخفاقاتها الكبرى. بدورها، الصين التى ردت على تلك الأفكار باعتبارها دليلاً على فقدان المسئولين الأمريكيين عقولهم فى التعامل مع بلادهم، وأنها لا تعدو أن تكون نملة تسعى إلى هز الشجرة، أمامها تحدى أن تكون أكثر شفافية مما هى عليه الآن، ليس فقط بشأن مسئوليتها عن تفشى وباء كوفيد 19، والاندفاع نحو تغيير الوضع الاستراتيجى لكثير من الجزر فى بحر الصين الجنوبى وتجاهل احتجاجات ومطالب الدول التى تطل عليه، وتوظيف سلاسل التوريد العالمية من أجل هيمنة أكبر على الاقتصاد العالمى والإضرار باقتصادات نامية، وتجاهل بعض أقرب أصدقائها الإقليميين حين يتعرضون لمشكلات وتحديات كبرى، والتعامل مع الأمر بتجاهل وتغافل متعمدين، بل أحياناً الاستفادة من تلك المشكلات بغض النظر عن قيم الصداقة التاريخية مع أحد الأطراف. الشفافية الصينية المطلوبة فى الخارج لا تقل أهمية عن تلك المطلوبة فى الداخل، لا سيما ما يتعلق بحقوق مسلمى الصين. النموذج الصينى المبهر اقتصادياً لا يكفى وحده لاحتواء الضغوط الأمريكية. نقلا عن "الوطن"

مشاركة :