كتبت: سارة شريف «لقد دفعنا بكل طاقتنا وإمكانيتنا لنجد طريقا للوصول له بأي شكل من الأشكال، لقد كنا على استعداد للتعامل حتى مع الشيطان ليعود، لكنه لم يعود». ما سبق كانت هذه كلمات رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية عنه، فلم يكن يعرف ضابط الاستخبارات الأمريكي ويليام باكلي أنه قبل يوم على تنفيذ خطته للعثور على الرهائن الأمريكيين في لبنان وإنقاذهم، أنه في لفتة قاتلة، وسيصبح هو رهينة حزب الله. قبل أسابيع من اختطافه، حذره ضابط رفيع المستوى لكنه رد قائلا: «لدي شبكة استخبارات جيدة. أعتقد أنني في أمان»، وواصل الحياة بشكل طبيعي. البداية: ضابط محترف في الجيش الأمريكي وُلد ويليام فرانسيس باكلي في مدينة ميدفورد بولاية ماساتشوستس الأمريكية في 30 مايو 1928، وتخرج من المدرسة الثانوية في عام 1947 وانضم إلى الجيش الأمريكي، بعد عامين من الخدمة كشرطي عسكري (MP). بعدها التحق بمدرسة المرشحين الضباط (OCS) وأصبح ملازم ثان في المدرعات، ثم حضر دورة مهندس الضباط في مدينة فورت بلفوا بولاية فيرجينيا، ودورة ضابط الدرع المتقدم في مدينة فورت نوكس بولاية كنتاكي، ودورة أخرى بكلية الاستخبارات في أوبراميرجو بألمانيا. كان «باكلي» ضابطا محترفا لديه سجل عسكري مُضيء خلال الحرب الكورية، وقتها خدم كقائد سرية في فرقة الفرسان الأولى، وبعد الحرب أكمل دراسته الجامعية وتخرج من جامعة بوسطن بشهادة في العلوم السياسية. وخلال هذه الفترة بدأ «باكلي» وظيفته الأولى مع وكالة المخابرات المركزية في الفترة 1955: 1957، كما عمل كأمين مكتبة في المكتبات العامة في كونكورد، وينشستر ولكسينجتون. وفي عام 1960 حضر «باكلي» دورة تأهيل القوات الخاصة، ثم تم تعيينه في وحدة القوات الخاصة 320 (الاحتياطي)، التي أصبحت فيما بعد مجموعة القوات الخاصة 11 (الاحتياطية)، وشارك في حرب فيتنام وتمت ترقيته إلى مقدم في مايو 1969. الـ CIA ترسله إلى النقاط الساخنة في العالم كانت إمكانياته مميزة ولافتة، لم يكن مجرد رجل عسكري بارز، فلديه العديد من الإمكانيات التي جعلته ضابط استخبارات أمريكي مميز، فأخذته وكالة الاستخبارات المركزية CIA إلى النقاط الساخنة في جميع أنحاء العالم في أدوار سرية، والتي لا يزال بعضها غير معروف، وكان يذهب إلى هذه النقاط كضابط جيش أمريكي أو بأي صفة أخرى. وفي عام 1965 (أو 1963، وفقًا لأحد المصادر)، انضم «باكلي» إلى وكالة المخابرات المركزية في ما يسمى الآن بقسم الأنشطة الخاصة، تم تجنيده من قبل ضابط يدعى تيد شاكلي، وانضم إلى فريقه السري الذي كان مسؤولاً عن برنامج الاغتيال في وكالة المخابرات المركزية. وربما عمل «باكلي» لدى وكالة المخابرات المركزية أثناء وجوده في المكسيك عام 1963، ولكن هذا غير مؤكد، في حين ثبت عمله لديها أثناء وجوده في فيتنام في الفترة 1965 : 1970. وبعد مغادرة فيتنام، خدم «باكلي» في زائير (1970-1972)، ثم كمبوديا (1972)، فمصر (1972–1978)، وباكستان (1978-1979). وأشارت الكاتبة ليزلي كوكبيرن، في كتابها «خارج السيطرة» الصادر في 1987، أن «باكلي» كان متورطًا في الموافقة على اغتيالات وكالة المخابرات المركزية التي قامت بها فرقة «شاكلي»، بعد تفجير أبريل 1983 في السفارة الأمريكية بلبنان، والذي أودى بحياة 63 شخصًا. وكان من بين ضحايا هذا الحادث 17 أمريكيًا، وعليه تطوع «باكلي» للذهاب إلى بيروت متحمسا، لكنه لم يعرف أن نهايته ستكون حزينة وقاسية. الطريق إلى لبنان ذهب «باكلي» إلى لبنان تحت غطاء «سكرتير أول في القسم السياسي بالسفارة الأمريكية»، وتعامل كخبير في الإرهاب ولديه معرفة واسعة بعمليات وكالة المخابرات المركزية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ووصل إلى بيروت في صيف 1983، وكانت مهمته إعادة بناء عمليات المخابرات الأمريكية بعد تفجير السفارة في أبريل 1983. ولـ«باكلي» وقتها مهمة أخرى، تمثلت في هي تحرير الأمريكيين الذين احتجزتهم جماعة «حزب الله»، المدعومة من إيران، كرهائن في بيروت. وقبل يوم من اختطافه، حصل على الضوء الأخضر لإطلاق خطة تسمى «القبعات الخضراء»، وهي الخطة التي وضعتها المخابرات الأمريكية والإٍسرائيلية للعثور على الرهائن وإنقاذهم، وفي لفتة قاتلة، أصبح هو رهينة حزب الله، ولكن كيف كشف «حزب الله» هويته الحقيقية؟ بعض المعلومات الاستخباراتية التي استخدمها «حزب الله» لتحديد «باكلي» كرئيس وكالة المخابرات المركزية في بيروت تم توفيرها من قبل إيران، بناءً على المواد التي تم الاستيلاء عليها خلال سيطرة السفارة الأمريكية بإيران في عام 1979 أثناء الثورة الإيرانية. ليلة اختطافه كانت 16 مارس عام 1984، عندما توجه إلى مرأب للسيارات في بنايته للتوجه إلى العمل، وقبل أن يصل إلى سيارته تعرض لضربة على رأسه بحقيبة، وأدخلوه في سيارة صغيرة وأُخذ بعيدا. واعتقد البعض أن أحد أسباب اختطافه مع أمريكيين آخرين في ذلك الوقت كان بسببه محاكمة 17 مسلحًا مدعومين من إيران، التي كانت على وشك البدء في الكويت، وحذر الميجر جنرال كارل ستينر «باكلي» من أنه في خطر، لكنه قال له: «لدي شبكة استخبارات جيدة. أعتقد أنني في أمان»، وواصل العيش في شقته، والتحرك بروتينه العادي من وإلى العمل كل يوم. صدمة في واشنطن: تعذيب باكلي بيد حزب الله أثار اختطافه صدمة داخل المخابرات الأمريكية، وحاول الرئيس رونالد ريجان ومدير وكالة المخابرات المركزية ويليام كيسي تحريره بأقصى ما لديهما، وتم الحفاظ على سرية غطائه، فكانت التقارير التي تغطي الحادث تصفه كاختطاف لسكرتير القسم السياسي وليس مدير محطة المخابرات الأمريكية في لبنان. كان لدى وكالة المخابرات المركزية مصادر لتحديد مكانه بعد ستة أشهر من اختفائه، وصرح المسؤول بوكالة المخابرات المركزية ويليام كيسي أن العثور على «باكلي» كان أولوية مطلقة: «لقد دفعنا بكل طاقتنا وإمكانيتنا لنجد طريقا للوصول له بأي شكل من الأشكال، لقد كنا على ستعداد لنتعامل حتى مع الشيطان ليعود باكلي، لكنه لم يعد». في 22 يناير 1985، وبعد تسعة أشهر من اختطافه، ظهر «باكلي» في شريط فيديو قصير تم بثه لوكالة أنباء تلفزيونية بريطانية، وقال فيه: «أنا بخير، وأصدقائي بنجامين وير وجيريمي ليفين بخير أيضًا. نطلب من حكومتنا اتخاذ إجراءات لإطلاق سراحنا بسرعة»، بعدها هرب «ليفين» من خاطفيه في فبراير 1985، أُطلق سراح «وير» بعد سبعة أشهر، أما «باكلي» ظل أسيرا. وتعرض «باكلي» للتعذيب من ِقبَل المحققين اللبنانيين والإيرانيين، وبحسب ما ورد أرسل «حزب الله» ثلاث أشرطة فيديو مختلفة عن تعذيبه إلى وكالة المخابرات المركزية، كل منها أكثر قسوة من الآخر. يصف جوردون توماس، الذي كتب لصحيفة «كندا فري برس» في 25 أكتوبر 2006: «ظهر بائسا، كلماته غير متماسكة، كان يسيل لعابه، كانت عيناه تتدحرج بلا حول ولا قوة وجسده يهتز». ولوحظ علامات ثقوب على ذراعه كانت تشير إلى أنه تم حقنه بالمخدرات، ونتيجة لتعذيبه، فقد وقع على بيان من 400 صفحة حول أنشطة وكالة المخابرات المركزية. في 22 نوفمبر 1985 ، سافر تيد شاكلي، صديق «باكلي» ومجنِّده إلى فندق أتلانتيك في هامبورج، حيث التقى بالجنرال مانوشهر هاشمي، الرئيس السابق لقسم مكافحة التجسس في السافاك «المخابرات الإيرانية». ووفقًا لتقرير هذا الاجتماع الذي أرسله «شاكلي» إلى وكالة المخابرات المركزية، أخبر «هاشمي» أن الولايات المتحدة على استعداد لمناقشة شحنات الأسلحة مقابل الأمريكيين الأربعة المختطفين في لبنان، ولم يكن يعرف أن «باكلي» كان ميتا في هذه الأثناء. نهاية مأساوية لـ«باكلي».. والوكالة تنتقم من «حزب الله» تم نقل «باكلي» من قبو لقبو في بيروت، وعبر وادي البقاع تم نقله إلى إيران، حتى أعلن «حزب الله» مقتله في أكتوبر 1985، لكن الرهائن كشفوا فيما بعد أنه مات قبل شهور نتيجة التعذيب الذي تعرض له، ربما على يد رجل حزب الله عماد مغنية نفسه. يُعتقد أن «باكلي» قد مات بنوبة قلبية أثناء التعذيب في 3 يونيو 1985، بعد 444 يومًا في الأسر، واعترفت وكالة المخابرات المركزية بوفاته في حفل تأبيني للوكالة، في أغسطس 1987، بعد عامين تقريبًا من اعتراف «حزب الله» بقتله. كرمته الوكالة بنجمة منحوتة في الجدار التذكاري الرخامي للمبنى الرئيسي لوكالة المخابرات المركزية في لانجلي، فيرجينيا، حيث يتم إحياء ذكرى الضباط الذين قتلوا في الخدمة، وقيل إنها «نجمة 51 من 54 نجمة». وأعيدت رفاته إلى الولايات المتحدة في ديسمبر 1991، وقد حصل على صليب الاستخبارات المتميز، وهو أعلى تكريم لوكالة المخابرات المركزية، وتم دفنه في مقبرة أرلينجتون الوطنية، ولم يكن هذا هو المشهد الأخير في حكايته المأساوية. في فبراير 2008 في دمشق، سوريا، قتلت وكالة المخابرات المركزية، مع الموساد الإسرائيلي، عماد مغنية، زعيم «حزب الله» الذي أمر بتفجير بيروت، واختطاف وليام باكلي. وحتى اليوم، لم تنس الوكالة ما فعله «حزب الله» بأحد منهم، وتم إرسال رسالة واضحة لـ«حزب الله» مفادها: «سنتعقبك، بغض النظر عن الوقت الذي سيستغرقه هذا»، ويومها تم إغلاق ملف «باكلي».
مشاركة :