استغرقت رحلة أبي الحسين محمد بن أحمد الكناني الأندلسي صاحبة الكتاب المشهور "رحلة ابن جبير" قرابة ثلاث سنوات، انتهت في العام 581 للهجرة النبوية الشريفة، ومرَّ فيها الرحالة بمكة المكرمة وحضر فيها موسم الحج ويوم النحر أو عيد الأضحى المبارك.وذكر ابن جبير أن حُجاج بيت الله صعدوا إلى منى ثم أفاضوا إلى عرفات مباشرة دون المبيت في منى، والمبيت سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفق ما يقول الرحالة، لكن السبب المباشر وراء تعجيل الحجاج بالوفود إلى عرفات هو عدم الأمن على أنفسهم وعلى أموالهم ففي هذا التوقيت تهجم بنو شعبة على الحجاج فتنهب أرزاقهم، لكن عناية الله أظهرت لهم أمير أقام ببعض جنوده بين مزدلفة وعرفة لحماية الحجاج، ومن مهارات فرسانه أن أحدهم صعد الجبل بفرسه وهو من الجبال الوعرة والصعبة.كما أوضح ابن جبير أن السلطان صلاح الدين الأيوبي كان يراسل أمير مكة ويحض على العناية بالحجاج ويذكره أن الخير الذي نعيش فيه ما هو إلا ببركتهم ودعائهم، لذا كان إذا ذُكر اسم صلاح الدين في الخطبة ألهجت الألسن بالتأمين والدعاء.ووفق كتابه يقول ابن جبير: "فلما كان يوم الخميس بكَّر الناس بالصعود إلى منى وتمادوا منها إلى عرفات، وكانت السُنة المبيت بها، لكن ترك الناس ذلك اضطرارا بسبب خوف بني شعبة المغيرين على الحجاج في طريقهم إلى عرفات".ويتابع: "وصدر عن هذا الأمير عثمان المتقدم ذكره في ذلك اجتهاد بل جهاد يرجى له به المغفرة لجميع خطاياه إن شاء الله، وذلك أنه تقدم بجميع أصاحبه شاكين في الأسلحة إلى المضيق الذي بين مزدلفة وعرفات، وهو موضع ينحصر الطريق فيه بين جبلين فينحدر الشعبيون من أحدهما، وهو الذي عن يسار المار إلى عرفات، فينتهبون الحاج انتهابا، فضرب هذا الأمير قبة في ذلك المضيق بين الجبلين بعد أن قدم أحد أصحابه فصعد إلى رأس الجبل بفرسه، وهو جبل كؤود فعجبنا من شأنه وأكثر التعجب من أمر الفرس وكيف تمكن له الصعود إلى ذلك المرتقى الصعب الذي لا يرتقيه، فأمن جميع الحاج بمشاركة ذا الأمير لهم فحصل على أجرين: أجر جهاد وحج لأن تأمين وفد الله عز وجل في مثل ذلك اليوم من أعظم الجهاد.. واتصل صعود الناس ذلك اليوم كله والليلة كلها إلى يوم الجمعة كله فاجتمع بعرفات من البشر جمع لا يحصى عدده إلا الله عز وجل. ويستكمل ابن جبير: "ومزدلفة بين منى وعرفات، من منى إليها ما من مكة إلى منى، وذلك نحو خمسة أميال، ومنها إلى عرفات مثل ذلك أو أشف قليلا، وتسمى المشعر الحرام، وتسمى جمعا، فلها ثلاثة أسماء، وقبلها بنحو الميل وادى محسر، وجرت العادة بالهرولة فيه، وهو حد بين مزدلفة ومنى لأنه معترض بينهما.وعن موقف عرفة المهيب والكبير يقول ابن جبير: "وعرفات أيضا بسيط من الأرض مد البصر، لو كان محشرا للخلائق لوسعهم، يحدق بذلك البسيط جبال كثيرة".
مشاركة :