الحريق الذي نشب مساء الاثنين بصالة المغادرة في مطار مصراتة، جاء ليؤكد من جديد حجم العبث الذي تمارسه القوى الجهوية المتحكمة في المدينة بواسطة ميليشيات خارجة عن القانون، والتي ازداد تغوّلها بعد أن جرى تبنيها من قبل الغازي التركي، وليكشف عن الأساليب المعتمدة في التعامل مع مؤسسات الدولة الخاضعة لحكومة فايز السراج، وخاصة منها المالية والاقتصادية. الموضوع ببساطة يتعلق بمشروع لصيانة الصالة يعود إلى عام 2018، وذلك من خلال عقد تشغيل مبرم مع شركة مقاولات محلية بقيمة إجمالية قدرها 7.8 مليون دينار، ولكن يبدو أن هذا المبلغ لم يعجب الأطراف المتداخلة، التي يرغب كلّ منها في الحصول على جزء من الكعكة كالعادة دائما، فتقدم أحمد معيتيق نائب رئيس المجلس الرئاسي بطلب لتغيير العقد ورفع المبلغ إلى 57 مليون دينار، وجاء في رسالة موجّهة إلى رئيس المجلس “نظرا لأهمية المشروع واحتياجات المطار لأعمال تنفيذ محطة ركاب متكاملة بدلا عن أعمال الصيانة نرى أن يتم إصدار قرار من المجلس الرئاسي يوافق فيه لوزارة المواصلات بإبرام ملحق عِقد لعَقد مشروع صيانة صالة الركاب بمطار مصراتة”. في غياب الرد الملائم والسريع، كان لا بد من وضع فايز السراج أمام الأمر الواقع بإضرام النار في صالة المغادرة، وهو ما سيمثل له حرجا أمام أصدقائه الأتراك الذين يعتبرون مصراتة محافظة تابعة لهم تحمل رقم 82، وجزءا من إرثهم العثماني في شمال أفريقيا، وبالتالي فإن عليه أن ينصاع للأوامر، خصوصا وأن نظام أردوغان هو المتحكم الفعلي في مراكز القرار بطرابلس المحتلة. وجاءت حادثة حرق صالة المغادرة بمطار مصراتة، بعد أيام قليلة من حادثة شهدها المطار ذاته، والكائن بقاعدة الكلية الجوية، عندما وصل أربعون ضابطا إيطاليّا على متن طائرة حربية تابعة لسلاح الجو للالتحاق بالمستشفى الميداني الذي يعملون فيه، والموجود داخل القاعدة منذ العام 2016. لكن عددا من الضباط الأتراك اعترضوهم أمام سلّم الطائرة، وطالبوهم بالاستظهار بتأشيرة الدخول، وعندما لم يجدوها على جواز السفر، أمروهم بالعودة من حيث أتوا. منذ خمسة أعوام، والضباط الإيطاليون، وهم من أعضاء اللواء الطبي في جيش بلادهم، يدخلون مصراتة ويغادرونها دون تأشيرة، لكن الوضع تغيّر الآن، فالقوانين الجديدة يفرضها الوصيّ التركي الذي يريد الانفراد بالكعكة، والإيطاليون يعلمون جيدا كيف نزعت ميليشيات مصراتة السلاح من وحدتهم الموجودة بمصراتة، بما في ذلك أسلحة العسكريين المكلفين بحماية سفارتهم. بعض الصحف الإيطالية نشرت على صفحاتها الأولى صور الموز وعنوانا كبيرا “هل أصبحنا من جمهوريات الموز؟”، في إشارة إلى تصريح غاضب من عضو لجنة الشؤون الخارجية وزعيم حزب “فورزا إيطاليا”، السيناتور إنريكو إيمي، الذي قال “عادت قواتنا بعد بضع ساعات في نفس الطائرة. الأخبار لا تصدق، وتعكس أن بلدنا لم يعد يحسب له حساب على المستوى الدولي، مقارنة بالولايات المتحدة”. وأضاف “هذا التصرف يسخر من إيطاليا، ويضفي الشرعية على العالم ليعاملنا كجمهورية موز”. البرلمان الإيطالي، بغرفتيه، ووزارة الدفاع ومؤسسات سيادية وشخصيات سياسية ووسائل إعلام، اعتبرت حادثة مصراتة إهانة لإيطاليا توجه إليها من داخل مستعمرتها القديمة، واتهمت الأتراك بأنهم معدومو الضمير. لكن ذلك مصير من يتحالف مع ميليشيات جاهزة لبيع ولاءاتها؛ فمن يدفع أولا يضمن مصالحه أكثر من غيره. حكومة الوفاق غير الدستورية لم تنبس ببنت شفة، بعض المصادر تحدثت عن عجز السراج عن مجرد مناقشة الجانب التركي، وهو يعلم أن أردوغان يجهز من سيجلس مكانه، والذي سيكون هذه المرة من مصراتة. وزير الداخلية المفوض فتحي باشاغا يسعى بقوة ويوجّه رسائل إلى كل القوى الإقليمية والدولية بما فيها إسرائيل عن طريق هنري برناد ليفي، بأنه أفضل من يمكن ترشيحه لتزعم المرحلة القادمة. عندما غضب السراج من استقبال مصراتة قبل أيام لليفي، لم يكن غضبه لأسباب مبدئية كما يعتقد البعض، وإنما لأنه أدرك أن تلك الزيارة يقف وراءها باشاغا الذي يطمح إلى خلافته، خصوصا وأن الكاتب والمفكر الفرنسي صاحب الميول الصهيونية يمتلك شبكة علاقات دولية مؤثرة في الأوساط الفرنسية والأميركية والإسرائيلية وبين شركات النفط والغاز ومنصات الإعلام الموجّه سواء التي يشتغل معها، أو التي يتوافق مع مسيريها في الفكرة والمشروع. قضى فايز السراج إجازة العيد مع أسرته في بيته اللندني، لكن أقرب الناس إليه يقولون إنه يبدو مهموما أكثر من اللازم هذه الأيام، فالرجل وضع كل البيض في سلة أردوغان، وهو لا يعرف شيئا عن صفحات التاريخ العثماني التي تجري إعادة كتابتها من ليبيا، والتي كانت كثيرا ما تتحدث عن قتل الأبناء والوزراء والتابعين الأوفياء خنقا بخيوط الحرير، كان عليه وهو الذي يفاخر بأصوله التركية أن يدرك أن زمن فيلق طرابلس قد انتهى، وجاء زمن لواء مصراتة الذي تدار شؤونه من أنقرة. كثيرة هي الأحداث التي تجري هذه الأيام في غرب ليبيا، لتؤكد أن التاريخ يكتبه حاليا المحسوبون على الإرث العثماني في مصراتة، وأصحاب المصالح ممن لا يرون في البلد المنهك بالمرتزقة والإرهاب ودواعش المال، إلا الثروة التي يتقاسمونها مع نظرائهم من القطط السمان داخل أسرة أردوغان، أو مع المقربين منها تحت غطاء “الفساد الحلال”، الذي يمكن العثور على نصوص له تنظّر في موروثٍ يهدف الإسلام السياسي منه إلى إحيائه تحت بند الغنيمة. حريق صالة المغادرة بمطار مصراتة، ليس سوى واحد من مؤشرات الخراب الذي يعمّ غرب ليبيا تحت الاحتلال التركي، وهناك الكثير من المؤشرات الأخرى التي قد يكشف عنها السراج من مقرّ إقامته اللندني عندما يحال إلى العطالة قريبا، لكن قبل أن يفصح عن أيّ منها، عليه أن ينتبه إلى دوره في ذلك الخراب الذي نزل، والاحتلال الذي بات أمرا واقعا، فالتاريخ لن يرحمه، والشعب لن يغفر له، وحتى من استفادوا من خطيئته هم أول من سينقلب عليه، حدث هذا سابقا. قد يسقط الرأس ولكن الذنب سيبقى يتحرك.
مشاركة :