الهروب إلى المجهول ديدن المُستضعفين في الأرض. وهو أن تفر من واقعك بحثا عن يوتوبيا حالمة ترسمها في خيالك. كما تختار ما لا تراه ولا تعرفه ظنا أنه أفضل. وهو أمر متكرر في بلادنا العربية في ظل تكرار المواجع والمآسي الإنسانية. في هذا الإطار كان لنا هذا الحوار مع الروائية المصرية ضُحى عاصي. كل مجهول نظُنه عظيما، وكل بعيد عن آلامنا نحسبه طيبا حتى نصطدم بشوكه، فنعي أن القبح مثل المحاسن تعيش في كل مكان وزمان. تلك فكرة مستحدثة حاولت الروائية المصرية ضُحى عاصي طرحها في روايتها الأحدث “غيوم فرنسية” في إطار بعث لحوار قديم جديد لقضية الهوية، وتساؤلات مختلفة حول صدام الحضارات، وصراع الثقافات. المشترك الإنساني الرواية التي صدرت عن دار “ابن رشد” في القاهرة، ونفدت طبعتها الأولى تتناول حكاية مجموعة من المصريين الأقباط يغادرون بلدهم مع قوات الحملة الفرنسية بصحبة الجنرال يعقوب، ذلك المصري المسيحي الذي تحالف مع القائد الفرنسي نابليون بونابرت عند غزوه للمحروسة سنة 1798، بحثا عن الحياة الهانئة، والعدل المطلق، واقتناعا بشعارات الثورة الفرنسية بالمساواة والإخاء، غير أنهم يصطدمون بصراعات شبيهة بما عانوه في مصر. وتتخذ الرواية من شخصية فضل الله، القبطي المصري الهارب من جحيم المماليك والعثمانيين بطلا لها، إذ يبدو الرجل منبهرا بكلمات الإخاء، المساواة والحرية ويصل فرنسا هروبا من ظلم حاد وبحثا عن رضا، لتبدأ حكاية مثيرة لطمس الهوية والصراع الثقافي. تؤكد الروائية ضحى عاصي في حوار خاص مع “العرب”، أن الصراعات الإنسانية طبيعة من طبائع البشر، موجودة في كافة المجتمعات بصور شتى، وأن هناك دوما مشتركا إنسانيا لا يتبدل بتبدل الحضارات واختلاف الشعوب. وتشير إلى أنها تستند في حكايتها على نسيج من الواقعية الممتدة والأكثر تأثيرا في القارئ، والتي تفضلها كأسلوب كتابة. إذا كان البعض يتصور أن الواقعية تعني المحاكاة الحرفية للواقع، فإنها تقول لـ”العرب”، إن الأدب لا ينبغي أن يحاكي الواقع محاكاة حرفية حتى إذا كان الكاتب يكتب رواية واقعية، وإلا فإن الكتابة لا تعتبر أدبا، وإنما هي دراسة اجتماعية أو تحليل تاريخي أو مجرد طرح فكري. وتتابع قائلة “الأدب يقدم مساحات أوسع لقراءة الواقع بأدوات الإبداع، وفي مثل هذا التصور، فإن دور المبدع يكون أصعب كثيرا من دور الباحث لأن مسؤوليته تنصب على أن يجعل الواقع الذي يعرفه الجميع مدهشا ومختلفا”. تذكر الكاتبة أن رواية “غيوم فرنسية” تشكلت في ذهنها من خلال فكرة متكررة حول حقوق المسيحيين ومشاعرهم في بلد مثل مصر تغلبه الأكثرية المسلمة، وكيف يمكن صيانتها تحت مظلة المواطنة. وتشير إلى أن تلك الفكرة تلاحقها منذ الطفولة، حيث كانت ابنة لشيخ أزهري مستنير هو مصطفى عاصي، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، والذي لم يجد حرجا في أن يلحق بناته، هي وشقيقاتها الأربع، بمدارس الراهبات الفرنسيسكان، لإيمانه الحقيقي بأن الدين لله والوطن للجميع. تقول لـ”العرب”، إنها اختارت بدايات القرن التاسع عشر الميلادي لأن هذه المرحلة تحديدا مثلت حقبة مهمة، حيث ميلاد مشروع الهوية المصرية مع قدوم الفرنسيين بأفكارهم الثورية، وما طرحوه من شعارات كانت بمثابة حجر كبير أُلقي في مياه راكدة، وكانت مصر وقتها مجرد ولاية عثمانية. وتوضح أنها رأت في العودة إلى فترة الحملة الفرنسية فرصة مناسبة لطرح قيم الإنسانية المشتركة بعيدا عن سطوة رجال المال أو الاستغلال باسم الإله، وهي أبرز أفكار الفرنسيين في ذلك الوقت. ورغم قولها “إن زعماء الثورة يقتلون من يخالفهم في الرأي” على لسان إحدى شخصيات الرواية تعليقا على أحداث ما بعد الثورة الفرنسية أو عصر الإرهاب، إلا أنها لا تعتبر ذلك قانونا عاما للثورات، فهناك دراسات عديدة حاولت تشريح الثورات الرئيسية في العالم. ومنها مثلا كتاب المؤرخ والأكاديمي الأميركي كرين برينتون “تشريح الثورة”، والذي قام بعمل نموذج تحليلي لما حدث في الأربع ثورات الكبرى أو مثل كتاب “مواطنون- حكايات الثورة الفرنسية” لسيمون شما، إلا أنه يمكن استخلاص أن صراعات ما بعد الثورات مستمرة. الماضي يتكرر ترى ضحى عاصي أن الرواية ذات البعد التاريخي محاولة للتقرب من ماضي الإنسانية المشترك، والذي هو بالتبعية جزء من حاضرنا، وفي الكتابات الإبداعية توجد مساحات كبيرة من الحرية والتخيل تسمح للمبدع بالانطلاق والبوح بما يدور في خلده من تصورات ورؤى، فهو لا يكتب تاريخا، إنما يكتب متخيلا سرديا عن التاريخ. في تقديرها أن الكتابة الروائية ذات البعد التاريخي أشبه بمغامرة صعبة للغاية، لأن الإلمام بتفاصيل الحياة من أماكن، ملابس، تصورات، مفردات كلامية مستخدمة، خدمات عامة، وظروف سياسية واجتماعية، يعد أمرا غاية في الصعوبة. وتضيف لـ”العرب”، أن معرفة السياق الكامل الذي عاشت في ظلاله شخوص الرواية أمر مُضن، ولاشك أن الأصعب من ذلك هو إدراك مستوى وعي الشخصيات المستخدمة واختياراتها طبقا لزمانها الذي تعيش فيه. وفي سبيل ذلك حاولت ضحى الغوص في هذه الحقبة الزمنية المعاصرة لأحداث الرواية خلال بدايات القرن الثامن عشر الميلادي بكافة الوسائل المتاحة لها، وأولها الاطلاع على الكتب التي صدرت في تلك الفترة مثل كتابات عبدالرحمن الجبرتي، ونيقولا ترك، ومذكرات بعض الضباط الفرنسيين الذين شاركوا في الحملة على مصر أو المعاصرين لهم. وتكشف أن الفن التشكيلي من لوحات مرسومة في هذه الفترة منحها أيضا تصورا دقيقا وشاملا عن شكل الحياة وروحها وما تطبعه من أحاسيس ومشاعر إنسانية متباينة. الأدب لا ينبغي أن يحاكي الواقع محاكاة حرفية حتى إذا كان الكاتب يكتب رواية واقعية وترى عاصي أن سؤال الهوية المطروح في روايتها، والذي سبق لروائيين كثر في العالم العربي طرحه بصور مغايرة من الأسئلة الشائكة الممتدة والمنطرحة لفترة من الزمن، لأن الإيمان بالمواطنة لم يترسخ حتى الآن في الكثير من المجتمعات العربية بسبب ظهور الجماعات الإسلامية وهيمنتها على الخطاب الديني الأحادي والمتطرف وإعلاء الكثير من السمات الاجتماعية السلبية مثل ازدراء الآخر والتمييز. وعلى الرغم من كم التشريعات والنظم الرشيدة الموضوعة لترسيخ فكرة الهوية الوطنية لدى معظم الدول العربية، غير أن قيم المواطنة لم تتغلغل بعمق، وما زال سؤال الهوية حتى الآن مرتبكا. وحول أهم ما يشغلها كروائية في الفترة القادمة تقول لـ”العرب”، إنها منشغلة بالبحث في سؤال كيف تؤثر الأفكار على حيوات واختيارات البشر، كيف تبني تصوراتهم ورؤاهم الإنسانية، وكيف تؤسس لمجتمعات جديدة، وكيف تعادي أو تصالح التحضر والتقدم؟ تعتقد عاصي أن مهمة الأدب في المجمل هي الكشف عن كل شيء يدور حولنا، بدءا من الكشف عن الذات، عن التاريخ، السياسة، الحب، الجنس، الدين، وحتى الفكر نفسه، وهذا يسهم في نمو الإدراك، والذي بدوره يجعلنا أكثر قدرة على التعاطي مع الحياة بكل أزماتها ويساعدنا في الحفاظ على السلام النفسي بداخلنا. لذة الكشف وتشير إلى أن الرواية العربية مرت بمراحل كثيرة من المحاولات المبكرة، ثم فترة الاقتباس عن الأدب الغربي أو ترجمته، ثم فترة إنتاج الروايات المعبرة عن الواقع العربي بسماته الخاصة، وما أعقب ذلك من ازدهار، ولكل مرحلة قيمتها ومتعتها. وتؤكد أن الإبداع في حد ذاته عملية تحرر كاملة، لكن عندما يتحول إلى منتج فهنا تنتهي العلاقة بالنصوص من وجهة نظر إبداعية، وتبدأ مرحلة أخرى في العلاقة بالنص، وهي مرحلة صناعة النشر، فمثلا نسمع أن هذا العمل لا يناسب سياسة دار نشر بعينها، ومثل هذا المصطلح يحمل في ثناياه احتمالات كثيرة، منها السياسة التسويقية لكل دار أو أن الدار ترى النص غير جاذب لجمهور القراء، وفي بعض الأحيان يخضع الأمر لأيدولوجية دور النشر. وتتابع قائلة “إنه إلى جانب سياسات دور النشر، فإن هناك مجموعات وشللا ثقافية تساهم في الترويج لعمل إبداعي أو التقليل من عمل آخر، وإن كنت أتصور أن المناخ العام أكثر تأثيرا في الاحتفاء برواية”. وترى الروائية المصرية أن الكتابة فعل ذاتي جدا، ولغة الروائي وعالمه السردي هما نتاج تكوينه الثقافي والبيئي، وهي تقرأ في كافة الموضوعات، وإن كانت تفضل التاريخ ومقارنة الأديان وعلم الاجتماع والفن الشعبي. وتلفت النظر إلى أن المعرفة للكاتب مهمة جدا، وإذا كان موهوبا يستطيع تطويع المعرفة في كتاباته، أما إذا كان غير موهوب فستكون كتابته جافة، وستخفت بعد حين حتى وإن لمعت لبرهة لأسباب أخرى. وتعتبر أن الترجمة بمثابة شريان جديد لحياة النص، وكلما ترجم النص إلى لغة أخرى فهو باب إلى عالم مختلف وقراءة مغايرة ونقد جديد.
مشاركة :