3 مناف تخلق انقسامات وانشقاقات لا يرأبها سوى الحب

  • 7/19/2015
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

يصف العنوان الفرعي للرواية الجديدة للكاتب الفلسطيني ربعي المدهون، الرواية بأنها «كونشرتو من أربع حركات». مع ذلك سرعان ما يخلص القارئ إلى أن ما يقدمه المدهون أقرب إلى سيمفونية تتدفق حول مصائر فردية وجماعية، وثيمات حب وكراهية، وأحداث عشوائية محضة، تؤثر على حياتنا من دون أن يكون لنا حيلة من أمرنا أو سيطرة عليها. تشبه بنية الرواية الدمى الروسية (الماتريوشكا)، التي تحتوي كل منها على دمية أصغر. تقدم الرواية قصصا لأربع شخصيات، يبدو للوهلة الأولى، أن لديها من القواسم المشتركة ما يجمع بين سفن غريبة تمخر ليلا في قلب الضباب. أولا، هناك شخصية إيفانا أردكيان، وهي فلسطينية من أصل أرمني، تعود حكايتها إلى زمن الانتداب البريطاني على فلسطين. تكسر إيفانا تقاليد المجتمع الصارمة، وتهرب مع طبيب بريطاني، أحبته وأنجبت منه طفلة قبل سفرهما إلى بريطانيا في المرحلة الأخيرة من الوجود البريطاني في فلسطين. نحن لا نعلم ما إذا كان اسم عائلة إيفانا الأرمنية الذي يعني «نبتة هشة»، يحمل في طياته رسالة رمزية أم لا؛ مع ذلك، تعد حياتها بالفعل، رمزا لهشاشة الحالة الإنسانية. على نحو ما، يمكن النظر إلى قصة إيفانا كأنشودة طويلة من الخسارة، والاشتياق، وأيضا الحب شفقة بها. لكن القصة، من جهة أخرى مقابلة، تبدو على صلة بحكاية جنين دهمان التي تشكل الحركة الثانية من السيمفونية. تكتب جنين دهمان، التي ربما يبدو للبعض أنها تعبر عن «أنا» الكاتب، رواية خاصة بها بعنوان استفزازي هو «فلسطيني تيس». تروي من خلالها، قصة محمود دهمان الذي يهاجر وأسرته من مدينة المجدل عسقلان (جنوب البلاد) إلى غزة أثناء حرب 1948 التي أسفرت عن قيام دولة إسرائيل. وهي الأحداث التي يطلق عليها العرب النكبة. لأسباب غامضة، يتعلق بعضها بالخوف من الوقوع في قبضة الشرطة السرية المصرية المريعة، يترك دهمان أسرته في غزة ويعود إلى المجدل عسقلان. وما كان يعتبره دهمان إقامة مؤقتة، تبين أنه حكم بالسجن مدى الحياة، إذ يصبح قطاع غزة تحت حكم الإدارة المصرية، بعد وقف إطلاق النار بين العرب وإسرائيل، ما يعني عدم تمكن محمود دهمان من العودة إلى أسرته. حين يكتشف بداخله قدرا من الخنوع والاستسلام للأمر الواقع، يتزوج دهمان بامرأة أخرى، ويستقر في إسرائيل كمن يركب سفينة مبحرة نحو شواطئ مجهولة. وبينما يروي السارد في رواية جنين «فلسطيني تيس»، حكاية محمود دهمان، يخبرنا بقصة حب جنين نفسها وعلاقتها بباسم، وهو فلسطيني من الضفة الغربية هاجر إلى الولايات المتحدة. هنا نصبح إزاء ثلاثة مناف تخلق انقسامات وانشقاقات لا يستطيع رأبها سوى الحب. يستقر الحبيبان في يافا، التي باتت إحدى ضواحي تل أبيب، في قلعة قديمة ربما أملا في الإمساك ببعض الماضي الذي يحدوهما أمل في أن يريا مستقبلهما فيه. في الحركة الثالثة، يتغير مسار المنفى، ونرى، هذه المرة، جولي ابنة إيفانا تعود إلى إسرائيل مع زوجها وليد دهمان، تحقيقا لأمنية والدتها في نقل رمادها إما إلى مسقط رأسها في مدينة عكا أو إلى القدس. ويذهب الزائران، اللذان يفتقدان إلى تعلق شخصي قوي بالأرض المتنازع عليها، إلى حيفا، وعكا، ويافا، وعسقلان، والقدس كسائحين أجنبيين. ولأنهما يريان المكان بعيون جديدة متحررة من تأثير الصراع والكراهية، اللذين امتدا لجيلين، فقد وقعا في حب البلد رغم كل شيء؛ وراحا يفكران في الانتقال إليها، وبدء حياة جديدة من دون أفكار وتعريفات مسبقة. في الحركة الرابعة والأخيرة من السيمفونية، نعود إلى أنشودة مطولة، نسجت حول زيارة وليد دهمان إلى القدس، حيث يقضي بعض الوقت في «يد فشِم»، المتحف التذكاري للمحرقة اليهودية، وهو ما يقدم لمحة عن المأساة التي عاشها يهود أوروبا تحت حكم النازي، ما بين عامي 1932 و1945، ثم يلتقي الزوجان جنين دهمان، الروائية المكافحة في يافا، حيث تكشف لهما عن مصادر روايتها، ومصير شخصياتها، مقدمة إليهما نهاية غير متوقعة. ولا يرغب المدهون في أن يساوي بين المحرقة اليهودية والنكبة، فمثل هذه المحاولة ستكون مبتذلة. وما يحاول فعله، هو فهم المآسي الجماعية من خلال تأثيرها في إعادة تشكيل حياة الأفراد، وأحيانا تدميرها. هناك قول مأثور، هو أن المرء قد لا يلاحظ وجود الغابة إذا استغرق في النظر إلى شجرة. والدرس المستفاد هنا، هو أن التركيز على واقع الأفراد قد يجعلنا نفقد الصورة العامة لواقع أكثر شمولا. ويعتقد المدهون أننا لا نستطيع أن نرى الغابة الحقيقية، إلا إذا رأينا الأشجار فرادى. وإذا لم تكن كل من النكبة والمحرقة اليهودية مرتبطة بروايات أفراد ومفهومة من خلالهم، فهما لن تكونا أكثر من شيئين مجردين. تعدُّ كل من إسرائيل وفلسطين، مفهومين لحروب سياسة وقومية، وحتى دينية، الهدف النهائي لها هو الوصول إلى السلطة. ومع ذلك عندما نرى عددا لا يحصى من البشر بذكرياتهم، وتطلعاتهم، وآمالهم، ومخاوفهم، ومقدرتهم على الحب والكراهية المغلفة بتلك المفاهيم، ندرك أن الاتجاه من الخاص إلى العام، قد يساعدنا في فهم «الصورة الكبيرة». وهذه بطبيعة الحال، هي مهمة الأدب الرئيسية، خاصة الرواية المعاصرة كما قدمتها أوروبا منذ بداية القرن التاسع عشر وما بعده. من يقرأ رواية المدهون السابقة «السيدة من تل أبيب»، لن يجد أي صعوبة في رؤيته كروائي واعد. في هذه الرواية، وهي الثانية للكاتب، يستعرض المدهون جزءا من ذلك الوعد، لكن مع مهارة في رسم الشخصيات، ويقدم نثرًا ذا إيقاع سريع شبيه بأسلوب همنغواي، ولديه سيطرة أكبر على العواطف المتمردة. الآن، يمكن القول إن رواية المدهون المقبلة جديرة بالانتظار.

مشاركة :