هذا كتاب يختلف عن كل الكتب التي صدرت عن صاحب نوبل 1988، إذ يفتش في أرشيف نجيب محفوظ الوظيفي، منذ تخرجه من الجامعة المصرية (جامعة القاهرة حاليا) وحتى إحالته إلى المعاش عام 1971. وقد رجع مؤلف الكتاب الكاتب الصحفي طارق الطاهر - رئيس تحرير جريدة "أخبار الأدب" القاهرية - إلى الملف الوظيفي لصاحب نوبل في الأماكن التي عمل بها وهي ثلاثة أماكن: جامعة القاهرة، ووزارة الأوقاف، ووزارة الثقافة. ووقع على كنز ثمين من الأوراق الرسمية وطلبات الإجازات وقرارات تعيين أو نقل أو ترقية نجيب محفوظ سواء بخط يده، أو استمارات معدة سلفا ويملأ صاحبها الفراغات التي تحتوي على البيانات والمعلومات المطلوبة منه، وقد بلغت – حسب الطاهر – أكثر من ثلاثمائة ورقة، اختار منها المؤلف ما يشكل الكتاب الذي بين أيدينا، وهو سيرة تنشر للمرة الأولى كاملة عن نجيب محفوظ من خلال ملفه الوظيفي، صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2019 وجاء في 212 صفحة، وسبعة فصول، الأول: حياة في أوراق رسمية. الثاني: الموظف في الجامعة المصرية. الثالث: في وزارة الأوقاف. الرابع: في مصلحة الفنون ووزارة الثقافة والإرشاد (وزارة الثقافة). الخامس: الجوائز والتكريمات. السادس: أزمات وظيفية. السابع: ببليوجرافيا. وأرفق الطاهر في نهاية الكتاب ملحقا يضم الكثير من الوثائق الخاصة بنجيب محفوظ التي تعرض مجتمعة للمرة الأولى. كان نجيب محفوظ أصغر أخوته الذي يكبرونه في السن، فعاش شبه وحيد لمغادرتهم المنزل، فيما عدا أخا استمر معه لفترة، ولكن لطبيعة عمله (ضابطا في الجيش) كان لا يمكث في البيت كثيرا، ومن هنا التصق محفوظ بأمه، التي كانت مدخله الأول لعالم الثقافة والفنون، حينما تصحبه في رحلات شبه دائمة للمتحف المصري والمتحف الإسلامي بباب الخلق، والمساجد والكنائس ومنطقة الأهرام، وهكذا اكتسب محفوظ ثقافته الأولى من خلال أمه ورحلاتها في المتاحف وبين الآثار. وقد انعكس ذلك على روايات محفوظ الأولى، وهي المرحلة الفرعونية التي كتب فيها "عبث الأقدار" و"رادوبيس" و"كفاح طيبة" وقبلها ترجمته لكتاب "مصر القديمة" للكاتب جيمس بيلي عام 1932.لم يلتحق محفوظ بالتجنيد بسبب عمل أخيه ضابطا فحصل على الإعفاء وسمحت له وزارة الحربية والبحرية بالتعيين في الجامعة بعد تخرجه، إذ أنه غير مطالب بأداء الخدمة العسكرية. لقد اختار نجيب محفوظ أن يدرس الفلسفة في كلية الآداب، وفضلها على دراسة الحقوق التي كان يرغبها والده. وعندما سأله د. طه حسين – وكان أحد ممتحنيه للقبول في قسم الفلسفة – لماذا اخترت قسم الفلسفة؟ جاءت إجابته بأنه يرغب في معرفة سر الكون وأسرار الوجود. أصغى طه حسين جيدا للشاب المقبل على الدراسة الجامعية. ثم قال ساخرا: أنت جدير بالفلسفة فعلا، لأنك تقول كلاما غير مفهوم. ويكشف لنا طارق الطاهر أن قراءة نجيب محفوظ للكتاب المقدس كانت من المصادر التي اعتمد عليها في كتابة "أولاد حارتنا". كانت أول عبارة وظيفية يكتبها نجيب محفوظ في حياته بعد تخرجه في كلية الآداب عام 1934 (26 / 9 / 34) هي "طلب استخدام": "أتشرف بأن أطلب الالتحاق بإحدى وظائف الجامعة الخالية، وإني وإن كنت من المتخصصين في علوم الفلسفة، إلا أنه يمكنني القيام بأي وظيفة كتابية أو ترجمة". ومن خلال أوراق المعاملة الوظيفية عرف أن طوله 170 سم، وصدره 88، ولونه قمحي، وعيناه عسليتان. كما تم إثبات الحسنة التي بخده الشمال. وفي النهاية أثبتت الفحوصات أو نتائج الكشف الطبي أنه لائق للوظيفة، والحمد لله. أما "الفيش والتشبيه (صحيفة الحالة الجنائية) المحرر في 30 أكتوبر 1934 الخاص به، فقد أثبت أنه ليس لي سوابق، والحمد لله. أما "كشف الممتلكات" (إقرار الذمة المالية) وهو ضمن الأوراق الرسمية للوظيفة، فقد أثبت فيه نجيب محفوظ أنه لا يملك عقارات، أراضي كانت أو مباني، وليس مشتغلا شيئا إلا في جهة عمله، ولا في أية جهة أخرى، وتعهد أنه إذا اشترى عقارا ما في دائرة توظيفه أو في غيرها من جهات القطر المصري، بأن يبادر بإخبار الوزارة أو المصلحة التابع بها. وبعد عدة إجراءات أخرى واستكمال بيانات مشابهة أصبح نجيب محفوظ موظفا في الدولة المصرية بالدرجة السابعة، بماهية قدرها عشرة جنهيات مصرية شهريا اعتبارا من 11 / 11/ 1934. وقد عمل في وزارة الأوقاف في أكثر من مكان، منها مكتب الوزير، ومؤسسة القرض الحسن ومكتبة الغوري في الأزهر، وهذه التنقلات جاءت بناء على قربه أو بعده من الوزير الموجود. في مكتبة الغوري يقضي نجيب محفوظ شهورا من أمتع فترات حياته، حيث قرأ "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست، وكان يتردد بانتظام على مقهى الفيشاوي في النهار حيث المقهى شبه خال، يدخن الشيشة، يفكر، يتأمل، وكان يمشي في الغورية، وقد انعكست هذه المنطقة في أعماله، حتى عندما انتقل بعد ذلك إلى معالجة موضوعات ذات طبيعة فكرية أو رمزية. في الغورية عاد إلى عالم الحارة واستلهم منها الكثير من وقائع رواياته، وخاصة "الحرافيش". ومن طرائف وظيفة "سكرتير برلماني" أنه ذات مرة أعطى الوزير عبدالسلام الشاذلي قصة له في مظروف مغلق، بدلا من أن يعطيه الرد الذي أعده وسيلقيه في البرلمان، وعندما اكتشفت الأمر بالمصادفة مر بلحظات عصيبة، إلى أن استطاع سحب المظروف قبل دقائق من انعقاد الجلسة. فتح مظروفا كان بيده ليلقي نظرة أخيرة على قصة قصيرة كان قد كتبها، ويسلمها في اليوم نفسه للزيات لينشرها له في مجلة "الرسالة" وإذا به يجد الرد الذي سيقوم الوزير بإلقائه في البرلمان، ولم يدر بنفسه وهو يندفع إلى مكتب الشاذلي باشا قبل أن يدخل القاعة، ويقوم باستبدال المظروف هذا بذاك. كان الشاذلي باشا مشغولا بالحديث مع أحد الوزراء، فتصور الشاب أنه لن يلاحظ شيئا، ومع ذلك سأله: ماذا تفعل عندك؟ فقال على الفور: لا شيء ذي بال، وخرج وهو يتنفس الصعداء. وربنا ستر.وهو من خلال الوظيفة عمل مع يحيى حقي الذي اختاره وعلي أحمد باكثير ليعملا معه في مصلحة الفنون التي أنشأها وزير الإرشاد فتحي رضوان عام 1955. وكان قد تعرف إلى يحيى حقي في نادي القصة، وقرأ له رواية "قنديل أم هاشم" سنة 1945، ووجد فيها عذوبة وفنا رفيعين. كان حقي يمضي يوم العمل كله تقريبا في مكتب محفوظ الملاصق لحجرته، وقد استنكر من محفوظ القيام لتحيته إذا أقبل في الصباح قائلا: أنت أديب كبير. ولكن محفوظ كان موظفا، وحقي كان المدير. كان محفوظ يدخل مكتبه في الثامنة إلا ثلاث دقائق، ويغادر في الثانية ودقيقتين. عمره ما زوّغ، ولا أخذ أجازة عارضة بدون وجه حق، ولا استأذن قبل موعد. كان موظفا كما ينبغي للموظف أن يكون. وإن لم يعشق الوظيفة مطلقا، وتمنى لو كان له دخل ثابت، لذا كانت الوظيفة بالنسبة له ضرورة زرق. وقد ظلم في ترقية كانت له أيام العمل في وزارة الأوقاف، وكانت للدرجة الرابعة التي منحوها لشخص آخر أقل منه تعليما، لأنه كان على صلة برئيس الديوان الملكي إبراهيم باشا عبدالهادي في ذلك الوقت، والصدمة أنه صدر قرار وزاري بترقية محفوظ بالفعل ووقّع عليه وأبلغ أمه وأصدقاء مقهى عرابي، وفي اليوم التالي ألغيت الترقية. لكنه لم يسكت على هذا الظلم، فقد رفع قضية ضد وزارة الأوقاف، وكسبها وعادت له الدرجة ولكن بعد سنوات طوال من فقدها. ومن محطات نجيب محفوظ الوظيفية المهمة صدور قرار رئاسي من الرئيس جمال عبدالناصر في أول مارس من عام 1962 بتعيينه رئيسا لمجلس إدارة السينما (التي أصبح اسمها المؤسسة المصرية العامة للسينما)، وفي القرار ذاته تعيين د. سهير القلماوي رئيسا لهيئة التأليف والنشر، وقد لاحظ الطاهر أن هذا القرار الرئاسي ذكر الاسم المفرد المركب فقط (نجيب محفوظ) ولم يذكر الاسم كاملا كما في الأوراق الرسمية المعتادة. كان محفوظ وقتها في الإسكندرية، واستدعاه الدكتور ثروت عكاشة وأخبره أنه أصبح رئيس مؤسسة السينما، وعندما أراد الاعتذار، قال له عكاشة: هل تحب أن تخذلني أمام عبدالناصر؟ فاضطر إلى قبول هذه الوظيفة، وهي أول وظيفة يقبلها كارها ومرغما. وعرف أن الدكتور عكاشة رشحه لهذا المنصب أمام الرئيس عبدالناصر، فرد عليه الرئيس بأن آراء محفوظ في السينما سلبية، فكيف يتولى هذا المنصب؟ وكان محفوظ قد تحدث في مجلة "الكواكب" مستهينا بالسينما، فدافع ثروت عكاشة عن آرائه، وأكد لعبدالناصر أنه الأصلح لهذه الوظيفة، ولذلك طلب منه ألا يخذله أمام الرئيس. وعين محفوظ رئيسا لمؤسسة السينما لمدة عامين، لم يفتح فيهما كتابا، ولم يكتب كلمة، وعاش في اكتئاب عام. كانت السينما مفلسة، ولا توجد سيولة، ويقول إنها أسوأ فترة في حياته الوظيفة. لكنه حاول تحريك الأمور، واقترضت المؤسسة مليون جنيه من البنك الصناعي، وبدأ العمل في بطء، كانت وظيفة مقلقة للراحة. كان الممثلون يأتون لمكتبه في شارع طلعت حرب، ويهددون بإلقاء أنفسهم من النافذة بسبب البطالة. وكان العمل يتم في أجواء من الاتهامات والتشكيك، وهي الفترة التي حدثت فيها هزيمة 1967. كانت هناك ثمانية أفلام في اللمسات الأخيرة، فانتهوا منها، وبدأ عرضها في دور السينما، وتزامن العرض مع الهزيمة، فتعرضت مؤسسة السينما لهجوم حاد، كيف تعرض هذه الأفلام والبلد في هذه الحال، ولم يتذكر أحد أن تلك الأفلام تم إنجازها قبل الكارثة. كانت ورطة كبيرة خرج منها نجيب محفوظ بالعناية الإلهية، وحل محله عبدالحميد جودة السحار كرئيس للمؤسسة. وأصبح هو مستشارا لوزير الثقافة حتى خرج للمعاش عام 1971 مختتما حياته الوظيفية الحافلة بدرجة نائب وزير، بمعاش يصل إلى 160 جنيها شهريا بعد 37 سنة في الوظيفة، والحمد لله.
مشاركة :