منذ عام 2002 حين انطلق ملتقى الشارقة للخط حتى يومنا هذا، لم تزل رغبة التجدد والتجاوز هاجساً يتلبّس الكثير من الذين أسهموا في تلك التظاهرة الكبيرة، حتى لكأن ذلك اللقاء فتح أمام أعين المبدعين آلاف الكوى المطلّة على الإمكانات المختزنة في ضمير التأليف التجاوزي للخط والزخرفة العربيين. إنها صفة من صفات التشكيل أيضاً. بل هي أوسع بكثير من الرغبة في الذهاب نحو ذلك السقف الذي ما برح يزداد ارتفاعاً وعلواً كلما تجددت أو كثرت الاجتهادات. قلنا في دراسات سابقة، إنه ليس هناك من سقف للإبداع، وما دام المطلق يجري على إطلاقه، فلا سقف أيضاً لأي ضرب من ضروب الفن، وبخاصة فن الخط العربي، وهذا الأمر يناقض تماماً نظرية الإعجاز في فن الخط العربي، وهي نظرية طلع بها بعض الكلاسيكيين الذين اجتهدوا ضمن إطار حدود الصنعة. والمشكلة التي فجرها ملتقى الشارقة للخط العربي منذ عام 2014، هي أقرب إلى المسألة الشعرية، فالذين رأوا أن الشعر العربي يمكن أن يتطور فقط ضمن إطار عروضه الموروثة، ومن صحيح بحوره المعروفة، لأنهم يؤمنون بأن الشعر هو (الكلام المقفى والموزون) وقد نسوا بأن الخروج خارج التفعيلة الموروثة، وتطويع اللغة، بل تطويرها لتصل إلى المستوى الشاعري، هو التطور التجاوزي الذي يحيل القصيدة إلى لغة شعرية حية، ويضع الأوزان ضمن حالة تجديد لا سابق لها. كذلك الخط العربي متى تعاملنا معه تشكيلياً لا أصولياً جامداً، فإننا سنصل إلى نتائج بالغة الأهمية والخطورة. إننا سنصل حتماً إلى نقطة الانفعال المطلوبة في الكتابة الإبداعية. إن مسافة مطلوبة أساساً بين الكتابة الابداعية، والكتابة التقليدية وفقاً لأنظمة التنقيط المعروفة في الخطوط المعدودة. وهنا لا نطالب بإسقاط أنظمة الرقعة والديواني والمعلق والفارسي وغير ذلك، بل نطالب بإلهاب كل نظام بما فيه من سماحات وتجاوزات. إننا لو أخذنا تجارب تشكيلية في الخط العربي، مثل تجربة (صباح الأربيلي) المقيم في بريطانيا والمولود في مدينة أربيل العراقية. فسوف نرى أن هذا الخطاط يأخذ حريته المتحركة بطلاقة اليد والريشة ليكتب التفافات الخط الديواني ويذهب بها نحو تدخلات لونية تؤكد أن هذا المسطح الخطي قد أضحى مسطحاً تشكيلياً. وفتح الخطاط المبدع حسن المسعودي باب المشق وحرية الضربة على أوسع الآفاق.فكان أن أسس عمارات بالحبر على الورق، وهذه العمارات تبين أثرها عندما وضع الحركة الحرة في تقابل صريح مع السطر المضبوط بالحرف أو الخط الكوفي المسطري. وهذا ما ذهبت إليه أيضاً القطرية (منيرة المير) في خطوطها التصويرية المنفذة بالإكريليك على القماش. لقد سحب هذا الاتجاه الجريء العديد من الفنانين الغربيين الذين عشقوا الحرف العربي واشتغلوا عليه أمثال الأمريكية الإيطالية (مونتيا دينغو) التي حولت الحرف عبر الحركة إلى ظلال راقصة. أو الفنانة الإماراتية (نرجس نور الدين) التي حولت المسطح الخطي إلى نتوءات نافرة، لكنها متداخلة ومتحركة. ولا نستثني بالطبع مهرجان التداخلات الخطية لأكثر من قلم ولون عند الفنان نصر الدين المقيم في ألمانيا. وهناك من لم يكتفِ بالملمس الافتراضي للحرف العربي المخطوط عبر تجسيده، بل عمد إلى نحته وتحويله إلى منحوتة أقامت علاقة ديناميكية بين الكتلة والفضاء. وقد برع بعض الفنانين العراقيين بذلك أمثال وسام حداد، ومحمود حسن وغيرهما. لكن هناك تجربة المغرب العربي في تونس والمغرب، ولو طالعنا تجربة عمر بن علي الجمني لوجدناها تأسيساً على تجربة تشكيلية ناضجة لعدد من فناني تونس الذين يسمونهم جماعة الحي الباريسي وربما اقتربت التجربة من إيقاعات الفنان والخطاط التونسي الكبير (نجا المهدوي).لكن محمد بستان المغربي الذي أتقن العمل على المواد المختلطة سوف يخترع عالماً تجريدياً ناضجاً ومتحركاً. ثم إن دخول التشكيل الخطي عوالم الرسوم الشعبية على الجدران، حيث شكّل خلفية جمالية للمدن الشرقية منح العديد من الخطاطين المبدعين فرصة التشكيل الإعلاني السريع. إن نداء صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة: بأن نجعل من الفنون وسيلة إلى حياة مبتغاة، وسبيلاً إلى اكتشاف الذات.هو النداء المطلوب في هذه المرحلة التي يحتاج فيها الإنسان العربي لأن يكتشف ذاته المجهولة لديه، أكثر مما يكتشف العالم الخارجي الذي يكرر ذاته بشكل يومي. ولكن تجربة الإبداع ضمن إطار الحرف العربي والخط العربي، والريادة العربية، هي تجربة الذهاب نحو الجزء الأكثر تداولاً وهي المكون الأبرز، على حد قول هشام المظلوم رئيس مجمع الشارقة للآداب والفنون المنسق العام ومدير إدارة الفنون. لقد ترك ذلك الملتقى أثره الإيجابي على جميع الذين شاركوا. فهم حضور مستمر زرعتهم إمارة الشارقة عبر نشاطها الابداعي في شتى أصقاع الخط العربي الواسعة الأرجاء.
مشاركة :