المصنفات والأعمال الأدبية؛ من شعر ورواية ومسرحية، والفكرية والفلسفية والنظرية. والمثقفون المنتمون غالباً للطبقة الوسطى التي تشكلت، والذين أنتجوا هذه المصنفات والأعمال، هم سِرّ التقدم الغربي المعاصر. التاريخ الثقافي، الفكري والفلسفي والأدبي، و(يشمل تاريخ المثقفين)، هو الذي احتوى جذور الحَراك الغربي المعاصر، وهو القاعدة التي أفرزت التاريخ السياسي. سيرورة التاريخ الثقافي كانت تمضي، والتاريخ السياسي إِمّا أن يوافقه، أو يعارضه، ومن خلال التفاعل المشترك، اتفاقاً أو معارضة، تشكل تاريخ الغرب. الغرب، بشقيه الأوروبي والأمريكي، في تقدمه الشامل وحراكه العالمي، مَدين للمشهد الثقافي. كلمة ثقافة، باللغة الإنجليزية، (culture)، لها صلة بكلمة (agriculture) زراعة، فمصطلح ثقافة جاء من مصطلح زراعة، فأخذ طبيعته، ووظيفته. لذا فإن الثقافة تزرع في الحضارة الغربية، أي تؤسس، وهذا كان وما زال دورها؛ أساس الشيء، وجذور المسألة، وقاعدة الأمر. الثقافة، بما تتضمنه من أدب وفكر وفلسفة ونظرية، هي المنتجة للسياسة؛ بما تتضمنه من ممارسات، وتصورات، ورؤى، وأنماط سلوك، وأساليب عمل، ونُظم حياة، ومؤسسات. في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ننظر للمشهد الفرنسي، فنرى تطوراته الثقافية، بالشكل التالي: زادت القراءة الشعبية، ونمت حركة النشر، وانخفضت أسعار الكتب، واتسع نطاق الكتب الرخيصة، وتوفرت المؤلفات المدرسية والجامعية والعلمية المتعمقة، وتأسست دور النشر، وتضاعف عدد المؤلفين، وتأسست الجوائز الأدبية، وبرزت المكتبات الشعبية وقاعات المطالعة، ودخلت المكتبات أروقة الجمعيات العلمية، والمدارس والجامعات والاتحادات والأفراد، وامتدت إلى البيئات الشعبية، وتضاعف عددها، ودخلت حتى إلى محطات السكك الحديدية، ومحطات مترو الأنفاق، ومحال البقالة، وظهرت نصبات وفرشات باعة الكتب القديمة والفترينات الجذابة في واجهات المكتبات وأكشاك الكتب في المحال الكبرى. المشهد الثقافي الفرنسي يتحدث عن نفسه؛ ظهرت الجرائد، والروايات المسلية، والروايات الصغيرة، والبوليسية، والعجائبية، وتقويمات تنشر نصائح عملية، أوراق صغيرة تتضمن وقائع منوعة، الكتاب الشعبي، الكتاب القومي، الكتاب الصغير، ونمت حركة التسويق والترويج والتشويق بهدف اجتذاب الجمهور عبر استخدام مقومات الدعاية مثل، الأفيشات وملاحق الصحف والمسابقات، وظهرت الأعمال الكلاسيكية والروائع الشعبية المؤثرة، وزاد استخدام كتب التبسيط الشعبي الجغرافي والعلمي والتقني، وارتفع مستوى التقنية الأدبية، وربح الأدب الشعبي، وانتشرت كتب مبسطة لتعليم الهوايات والبستنة والطهي والسلوك الإتيكيت؛ ففي عام 1913، على سبيل المثال، طبع من كتاب البارونة ستاف الفرنسية، السلوك في العالم الراقي نحو 163000 نسخة، وتطورت الصحافة بشكل مذهل؛ في الأقاليم الفرنسية، فقط، وليس في العاصمة باريس، كانت تُصدر في القرن التاسع عشر، نحو 240 صحيفة يومية، وتطورت الدوريات (روائية، موضة، منوعات، علمية، مصورة للأطفال، والمجلات العلمية، إتقان اللغة الفصحى، نماء كتابة البحوث، تفسيرات النصوص الأدبية) والدورات المهنية، ودروس الأخلاق، وتم تطوير البحوث العلمية الميدانية بطريقة أفقية جغرافية واسعة النطاق كانت تغطي الوطن الفرنسي. وتم تأسيس المدرسة الحرة للعلوم السياسية في عام 1871 في باريس، وسعت إلى تأسيس دراسة السياسة كعلم تركيبي تلتقي فيه علوم عدة. في القرن العشرين، ظل المشهد الثقافي الفرنسي، يقاوم بطريقته الخاصة، ظروف الاحتلال الألماني النازي لفرنسا (يونيو/حزيران 1940- ديسمبر/كانون الأول 1944). الفن السابع ظل يقدم أعمالاً سينمائية متميزة لم تتأثر بروح الاحتلال الحاكم، وحافظ الفنانون على الالتزام الفني، أي الالتزام بالإخراج الجيد والأداء الجيد، وحافظ الرسامون على رسم عالي الجودة تحكمه معايير فنية لم يخضع لمتطلبات الاحتلال. هذه الاستقلالية الفنية كانت تعبيرا عن الاستقلالية الثقافية وحملت، بالتالي، عنصر المقاومة للاحتلال. ونشأت جمعية فرنسا الفتاة في نوفمبر/تشرين الثاني 1940، وعملت في مجالات الموسيقى والمسرح والرسم والكتاب، وقدمت أعمالاً إبداعية حافظت فيها على روح فرنسا الحرة، غير المتأثرة بالسيطرة النازية. المشهد الثقافي الفرنسي أثبت استقلالاً حقيقياً إزاء إرادة نظام ألماني نازي مهيمن لم يستطع تطويع الحالة الثقافية الفرنسية لصالحه. ننظر للمشهد الثقافي الإيطالي، فنرى مايأتي: الدور الطليعي للطبقة الوسطى الإيطالية ، صنع إيطاليا المعاصرة، إيطاليا الحديثة جمهورية ديمقراطية، تصنف في المرتبة 18 عالمياً من بين الدول الأكثر تقدمًا، ويحتل معدل جودة الحياة فيها أحد المراكز العشرة الأولى في العالم، كما تتمتع إيطاليا بمستوى معيشة عال جدًا، وهي ذات ناتج محلي إجمالي عال للفرد، والناتج المحلي الإجمالي الاسمي للبلاد هو السابع عالميًا. من ناحية تاريخية، الوحدة الإيطالية التي تمخضت وتكاملت في عام 1871، مهدت لها أعمالاً أدبية عظيمة، أنتجها أدباء ومفكرون إيطاليون، مبدعون، ينتمون للطبقة الوسطى، التي تتشكل، حيث اوجدت هذه الأعمال الأدبية وعياً بأهمية الوحدة الإيطالية، كحل أساسي يعالج معاناة الشعب الإيطالي في ذلك الوقت، وبالتالي فإن العمل الأدبي والروائي، تحديداً، امتزج بالمشاعر القومية، كما لعبت التنظيمات السياسية الإيطالية، الليبرالية التقليدية والمحافظة والاشتراكية، مجتمعة، ورغم تجاذباتها وأيديولوجياتها المختلفة، والمتصارعة، أحياناً، وفي إطار تنافسها الداخلي أدواراً متعاظمة في صنع الوحدة الإيطالية، وخاصة مشروع دستور عام 1861، الذي نص على الحريات الأساسية، والذي مهد الطريق، هو الآخر، لصنع الوحدة الإيطالية، وبمشروع الوحدة الإيطالية، هذا، فقد تم معالجة أزمة التناحر والحروب والصراعات التي عانتها شبه الجزيرة الإيطالية، حقباً زمنية طويلة، كما تم معالجة أزمة وقوع إيطالياً تحت الاحتلال الخارجي واقتسامها من قبل الدول الأوروبية، في القرن التاسع عشر. والطبقة الوسطى الإيطالية المعاصرة هي المتكفلة بحفظ مشروع الوحدة، حتى هذه اللحظة، من خلال وسائل عملها المدني والسياسي. والمشهد الثقافي الأمريكي متشابك تماماً مع المشهد الثقافي الأوروبي. فالثقافة الفرنسية تأتي في قلب الثقافة الأمريكية، وكقوة أسهمت في تشكيل الوعي الأمريكي المعاصر، بشقيه، الثقافي والسياسي. وهذا واضح في أدبيات الدستور الأمريكي (1789) المتأثر بالثقافة الفرنسية. لقد قدم عالم النفس والفيلسوف الأمريكيوليم جيمس، في حفل التخرج في جامعة هارفرد عام 1895تعريفاً محدداً لمصطلح مثقف (intellectual) باعتباره الذي يملك المهارات في التفكير النقدي وقادر على اختراع الحلول للمشكلات المستجدة التي تواجه المجتمع. هذا هو المثقف في العُرف الثقافي الغربي. ليست هناك إشارة لحجم المعلومات التي لديه؛ فقط الإشارة إلى قدراته التفكيرية والتحليلية. المثقف ليس خازناً للمعلومات، بل منتج للفكر، ومبدع، ومخترع. وهذه نقطة جوهرية تؤسس لأهمية التحليل التي يحتاج اليها كل مثقف، سواء تجاه أعماله الأدبية، التي ينتجها؛ من فهم للمنتج الأدبي، ما فحواه وفرضياته وأهدافه، أو تجاه مجتمعه؛ قدرة المثقف على فهم مجتمعه، والتحديات التي يواجهها، وتحليلها، بهدف ايجاد الحلول لها؛ هكذا لتمضي الحياة هانئة ومستقرة وتحت السيطرة. وفي أعقاب الاحتلال الألماني النازي لفرنسا (يونيو 1940- ديسمبر1944)، هاجر مثقفون فرنسيون، إلى نيويورك، ومنحوها قوة ثقافية، لم تكن تعرفها من قبل. التأثير الثقافي الألماني، أيضاً، له شواهده على المشهد الأمريكي والعالمي. في هذا النطاق، إن تأسيس أهم نظرية معاصرة في العلاقات الدولية، النظرية الواقعية) تم في الولايات المتحدة، في جامعة شيكاغو في قسم العلوم السياسية، أنتجها عالم السياسة الأمريكي- الألماني الأصل الدكتور هانز مورغانثو ( (1904-1980) الذي هاجر إلى الولايات المتحدة، كمثقف شاب، هرباً من سيطرة الحزب الاشتراكي الوطني النازي على مقاليد الحكم في ألمانيا عام 1933، ونظرية الدكتور مورغانثو السياسية تركز على عامل القوة ومصالح الدول كمحددات في فهم السياسات الخارجية، و قدمها ضمن كتابه سياسات عبر الأمم ، وهي التي تفسر العالم المعاصر، في الكثير من تداعياته، والمؤثرة فيه. وفي الحقيقة، فإن جذور فكر وفلسفة مورغانثو بدأت وتطورت في ألمانيا، موطنه الأصلي، حيث أنتج رسالته للدكتوراه، وقدمها في كتابه ، (الإدارة الدولية للعدالة، جوهرها ومحدداتها) وشرح رؤيته للعدالة على أرض الواقع. وفي جامعة جنيف، سويسرا، طور رسالته العلمية الأخرى في موضوع النظرية الأخلاقية والقانون الدولي. هذا الإرث الثقافي الألماني حمله مورغانثو إلى بلده الجديد، الولايات المتحدة، وأثر في كل الأكاديميا الأمريكية، ثم العالمية، وعلى السياسات. وقد أصبح مستشارا في إدارة الرئيس الأمريكي الراحل جون كيندي (1961-1963) ثم في إدارة الرئيس جونسون (1963-1968)، و عارض حرب فيتنام رينهولد نبهر ( وجورج كينن ) و(هانا أريندت ) تأثروا بهذه الفلسفة، و أسهمت مؤلفاتهم في تعزيز الاتجاه نفسه. وما زال المشهد الثقافي الغربي يُحدث تداعياته على العالم بأسره.
مشاركة :