لديك ذاكرة لم تسقط منها صور ثقافية جميلة، أظنك مازلت محتفظاً بها أيها الكاتب العربي الذي تحب الصور العزيزة على قلبك، وتعتبرها جزءاً حميمياً من سيرتك الذاتية أو هي من مكونات شخصيتك الثقافية بكل ما في الصور من تفاصيل واستذكارات واستعادات. كانت المقاهي الثقافية، وتحديداً مقاهي الرصيف الثقافية من أكثر ملامح حياة الأدب والكتابة والفن في القاهرة، وبيروت ودمشق، وبغداد في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وربما شهدت هذه العواصم التي تحوّل بعضها اليوم إلى مدن حروب طائفية متنقلة ظاهرة المقاهي الثقافية قبل الستينات والسبعينات، والمهم هنا، هو حياة المقهى الثقافي، ورواده وتقاليده وأوقاته، وصخب الجدال والسجال والحوار في أرجائه، وقد لا تكون أرجاء مترامية، ولكن تكفي زاوية واحدة صغيرة في المقهى وبعدد محدود من المتحاورين لإثارة قضايا ثقافية وفكرية ونقدية يتواصل الجدل فيها إلى أسابيع وشهور. تلك صورة من صور الذاكرة الستينية أو السبعينية. كانت الحوارات الثقافية، وقد تتخللها مداخلات سياسية وإيديولوجية وعقائدية تنتقل من المقهى إلى الصحافة، وكان الحوار الجدلي في زاوية مقهى صغير سرعان ما ينضم إليه سياسيون وحزبيون ومنظرون ونقاد وأكاديميون جميعهم يدخلون فيما يشبه معركة ثقافية على ورق الجرائد، وبلا هوادة، وبكل جدية في الطرح وتلقي الرأي والرأي المضاد، بلا ترهل في المناظرات الندية الشرسة، وبلا سخرية من الرأي الآخر، وبلا مصادرة أو مخاوف أو تهديد أو عراك. أين كل هذا اليوم..؟.. لا شيء.. لا مقهى ولا رواد ثقافة في المقهى، ولا جدال، وإن جرى بعض الجدل الثقافي والسياسي اليوم، فإنه للأسف، يجري في الفضائيات السياسية التي تغذي المتخاصمين بالإثارة الإعلامية، وتحريك الرواكد العقائدية والمذهبية، فيتحول الحوار من كلام إلى شجار بالأيدي والأرجل، بل يصل أحياناً إلى إشهار السلاح. من الصور الستينية والسبعينية والثمانينية ظهور الجماعات الأدبية الشعرية والتشكيلية والمسرحية بشكل خاص.. إذ لم يحدث أن ظهرت جماعة تضم عدداً من الروائيين، كما لم تظهر جماعة تضم عدداً من نقاد الأدب. لقد ظل الشعر بوجه خاص هو المركز الجاذب لكتّابه، ليس في المحيط العربي، بل، وفي المحيط الأوروبي والغربي، الدادائيون كانوا جماعة، والسورياليون (تجمّع) وليسوا فقط جماعة، وفي مصر السبعينات امتلأت القاهرة بائتلافات شعرية أبرزها من شعراء السبعينات الذين توجه أغلبهم إلى كتابة قصيدة النثر، ومن أبرزهم حلمي سالم الذي عاش مدة من حياته في بيروت، وتأثر بتياراتها الفكرية والسياسية والثقافية، وكان قريباً من جماعة الرصيف التي أسسها رسمي أبوعلي، وعلي فودة الذي استشهد في حصار بيروت 1982، وفي الأردن ظهرت جماعة أجراس، وفي الإمارات ظهرت جماعة النوارس، واللافت أن هذه الجماعات الأدبية كانت محدودة الأعضاء، واللافت أيضاً أنها كانت تصدر مجلات مصفوفة على الآلة الكاتبة أو بخط اليد يُنشر فيها نتاج أعضاء الجماعة أو النتاج الشعري لمن هم متعاطفون مع هذه الجماعة أو تلك. الجماعات الأدبية الثقافية، ومقاهي الرصيف، والمعارك الأدبية، وإصدار البيانات الشعرية.. كل ذلك كان من سمات مراحل ثقافية عربية كان لها زمن ذهبي في الماضي، وقد انتهت هذه الظواهر اليوم، وربما لن تظهر ثانية أبداً بعد ظهور السيل الجارف لوسائل التواصل الاجتماعي في الشبكة العنكبوتية.
مشاركة :