قراءة في مستقبل الاقتصاد الدولي في زمن طوفان كورونا 1 - 2

  • 8/9/2020
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

شهد القرن المنصرم تحديات جسيمة؛ سياسية، إستراتيجية، عسكرية، اقتصادية اجتماعية.. الخ، الحرب العالمية الأولى عندما طويت صفحتها تنفس الاقتصاد العالمي الصعداء، لكن انهيار سوق الأسهم الأمريكية سجل ذلك التاريخ اسم يوم الثلاثاء باليوم (الأسود) (29 أكتوبر 1929) في التاريخ الاقتصادي لتعم الفوضى اقتصاد العالم ليتسبب في اندلاع الحرب الكونية الثانية. وعندما غربت شمس تلك الحرب الفاشية المدمرة بدأ اقتصاد النظام الرأسمالي مسيرته نحو التعافي ولم يعكر صفوه سوى أزمة الديون السيادية في أمريكا اللاتينية عام 1982 عندما عجزت دول منها المكسيك والبرازيل والأرجنتين عن دفع ديونها. ولم يمض وقت طويل حتى حلت أزمة المدخرات والقروض أمام المنظمين الأمريكيين التي بدأت رائحتها تفوح في أوائل الثمانينيات واستمرت خلال التسعينيات وتسببت بإفلاس أكثر من (700) مؤسسة ادخار وإقراض، كانت تطبق أسلوب الإقراض لمدد طويلة، وكان رفع سعر الفائدة على الدولار سبب رئيس في إفلاسها. وقد استمر هدير الأزمات عندما شهد سوق الأسهم انهيارًا مدويًا عام 1987 الذي عرف باسم (الاثنين الأسود) عندما انهارت أسواق الأسهم الدولية وخسر مؤشر داو جونز (508) نقطة (23) في المائة من قيمته. ليس هذا فحسب فقد تلا تلك الأزمة الاقتصادية أزمة أخرى أطلق عليها أزمة السندات ما دون مستوى الجودة، التي حدثت عندما عجزت عدة جهات إصدار عن إعادة دفع التزاماتها، ومن أضرار تلك الكارثة المالية إفلاس بنك (دريكسل بيرنهام لامبرت) عام 1990. أما الأزمة الآسيوية التي جاء ميلادها عامي 1997 و 1998، ففي عام 1997 كان انهيار العملة التايلاندية (البات) واستمر زحف الأزمة ليشمل كوريا الجنوبية وإندونيسيا ولاوس وهونج كونج وماليزيا، ولم ينتشل (ما كان يسمى بالتحور) تلك الدول سوى نجدة صندوق النقد الدولي لها الذي مدها بقروض بلغت (40) مليار دولار. ولم تتوقف مسيرة الأزمات المالية ففي عام 2008 اندلعت أكبر وأشرس أزمة عندما واجه العالم كارثة الرهن العقاري التي انطلقت رياحها من على أرض ماما أمريكا كزميلاتها كارثة 1929، 1987 واستطاعت دول العالم من التغلب على تلك الأزمة الاقتصادية خلال سنوات معدودات. وبقي اقتصاد العالم مستقرًا مستمتعًا بنمو مقبول في جميع جوانب الاقتصاد حتى أن أحد السلع ذات الأهمية الكبرى (النفط) كسر سعره حاجز (147) دولارًا للبرميل ليتدنى إلى (33) دولارًا للبرميل بعد عاصفة الانهيار عام 2008 وعاد السعر للتحسن حتى لامس عتبة (100) دولار للبرميل قبل أن يعود للتدني ليبلغ قبل (السوداء) كورونا ما بين 65 - 75 دولارًا للبرميل. وإذا كانت تلك الأحداث الاقتصادية قد طويت صفحاتها واستطاع النظام الاقتصادي الدولي أن يخرج من عباءاتها وتعود حركة الاقتصاد إلى مجاريها واضعة السنوات العجاف وراء ظهرها، بعد أن تغلب الاقتصاد الدولي على مسبباتها التي كانت واضحة، يربطها إلى حد كبير انهيار أسواق الأسهم، ليتسبب في انهيار كبير يخرج من رحمه انكماش اقتصادي خطير. لكن اليوم يواجه العالم باقتصاده الواسع أسوأ ركود اقتصادي عظيم يختلف في وجهه (القبيح) عن التحديات والأزمات الاقتصادية السابقة كالتي أطلق عليها في الثلاثينيات من القرن المنصرم (الكساد العظيم) وأخواته اللاحقات له في أواخر ثمانينيات القرن المنصرم وعام 2008 التي غزت العالم آتية من الشمال حيث ديار العم سام وخلفت ما خلفت من تخلخل اقتصادي في بعض دول العالم وفي المقدمة الدول الكبرى. لكن بدايات كورونا الصحية (السامة) قد ولدت في الشرق حيث الصين في سورها (العظيم) وعمت رياحها (الخبيثة) دول العالم أجمع. وإذا كان قد عرفت أسباب الانهيارات الاقتصادية السابقة، من حيث مدة حدوثها وزمن التغلب على آثارها فإن هذا بعيد المنال إلى حد كبير في حالة كارثة كورونا. وهذا هو السؤال الذي يصعب الإجابة عليه ما لم يعلن علماء الطب عن تمكنهم من اكتشاف لقاح أو علاج لهذا الداء الذي يزيد استشرائه يومًا بعد آخر ويحصد معه الآلاف من الأنفس. وبذا يمكن وصف ما يحدث لاقتصاد العالم اليوم بأنه تحد خطير قد يسقطه من القمة إلى الحضيض، ورغم ما حل بالعالم فيما مضى من ضربات (قوية) تلقاه جسد الاقتصاد الدولي، واستطاع أن يتعافى منها، بل وتعود وتيرة نموه إلى التحسن أكثر فأكثر، إلا أن ما يحدث اليوم من طعنات موجهة إلى خاصرة الاقتصادات الدولية تعد غير مسبوقة وتجربة قاسية تتفوق على جميع الأزمات المالية التي واجهها الاقتصاد الدولي، منذ ميلاده على يد أبي الاقتصاد سميث. وإذا كان (مثلاً) أن إجمالي الناتج المحلي الأمريكي خلال أزمة الثلاثينيات قد تدنى من (103) مليارات إلى (55) مليار دولار وأن البطالة في ذلك البلد آنذاك لامست (25) في المائة، وأن التجارة العالمية تراجعت بنسبة (65) في المائة والناتج الإجمالي العالمي تراجع بنسبة (15) في المائة، بينما في الفترة ما بين عامي 2008 و 2009 بعد الأزمة كان بنسبة لا تزيد عن (1) في المائة. لكن في زمن (سم كورونا) المشهد سيكون متغيرًا بشكل كبير تأثيرها سيكون مدمرًا على كل الدول الــ (193) الغنية والفقيرة منها، فالتجارة العالمية قد لحقها الضرر، وإجمالي الناتج الدولي هو الآخر سيلحقه الضرر، متوسط دخول الأفراد ستتدنى، البطالة ستستشري والفقر والعوز والجوع ستزيد حدتها. وعلى ذمة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إن الاقتصاد الدولي قد يواجه عوامل منها احتمال انتشار موجة أخرى من الإصابات بالفيروس الأمر الذي قد يتسبب في إغلاق للاقتصادات قبل نهاية هذا العام، والاحتمال الثاني قد يتجنب الاقتصاد تفشي آخر للوباء، وبذا يكون التأثير في الاقتصاد أقل وطأة. والمتتبع لتطور مسيرة هذا الداء العضال يتضح له بجلاء أن دولاً عديدة سيطولها الضرر ومنها الدول المصدرة للنفط والغاز، فضلاً عن الدول المصدرة لكل أنواع السلع، وبالتالي فإن نموها الاقتصادي سيصبح عرضة للتدني، بل إن هناك من يرى أن دولاً في شرق آسيا وأخرى في أمريكا ككندا والمكسيك، والاتحاد الأوروبي سيتدنى نمو اقتصادها بنسب بين (0.7 و 0.9) في المائة، بل إن الدول التي ترتبط بعلاقات تجارية ذات ثقل مع الصين قد يكون الأثر السلبي في نموها أكثر إبان (صاعقة كورونا). وإذا كان الحال كذلك فإن أي خبير متخصص في علوم الاقتصاد والمال والاستثمار، لا يملك إجابة قاطعة عن ملامح الاقتصاد في مستقبله المنظور في ظل طغيان هذا الداء العضال، الذي سبب ارتباكاً وتخبطاً للنظام الاقتصادي الدولي برمته، فاهتز عرشه، مما جعل البعض يذهبون إلى القول بنهاية الرأسمالية والعولمة التي خرجت من رحمه، والمناداة بنظام اقتصادي عالمي جديد يحقق عدالة أكثر وتوازناً حقيقياً في دخول الأفراد. وبذا فإن مطرقة وسندان الجائحة خاصة إذا طال عمرها ولم يتمكن العلماء من وقف هيجانها، فإن الدول الناشئة والنامية ستشهد تراجعاً كبيراً في النمو، أما الدول المتقدمة اقتصادياً (الصناعية) ستشهد تنافساً قوياً بينها خاصة في ميدان التصدير للدول النامية، وسيبرز التنافس الأشد ضراوة بين كل من الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة المركز الأول في إجمالي الناتج المحلي، والصين التي تليها في المركز الثاني، هذا الصراع بين الدولتين بدأ قبل بزوغ شمس الأزمة وسيشتد بعد غروب شمسها. إذا ونتيجة للركود الاقتصادي الذي ضرب اقتصاد القطاع الرأسمالي، فان هذا سيمتد أثره إلى كل الاقتصادات خاصة منها تلك النامية والدول الأكثر فقرًا، وستخرج بعض الدول من تلك المحنة (محملة) بديون ثقيلة يمكن تشبيهها بديون بعض الدول في أمريكا اللاتينية في الثمانينيات ومثلها بعض دول آسيا في نهاية التسعينيات وستصبح غارقة في تلك الديون عاجزة عن السداد وهذا معناه زيادة حدة انخفاض معدلات النمو وانخفاض مستويات معيشة الأفراد. وفي ظل هذا الوضع الذي يشهده الاقتصاد الدولي المهدد بأخطار جسيمة، تراجع في إجمالي الناتج المحلي Gdp وشلل أصاب حركة النقل فتوقفت عجلة السياحة والمشاريع الصغرى والمتوسطة مصحوباً بانهيار أسعار الذهب الأسود، فضلاً عن تفاقم فجوة توزيع الدخل، الأمر الذي أشاع القلق والتوتر في جميع الأسواق في الدول المتقدمة والنامية، وجعل من الصعب التوقع بحركة الاقتصاد الدولي. هذا يجعل من الوضع الحالي الذي يشهده النظام الاقتصادي أكثر سوءاً من كل الأزمات الاقتصادية التي حلت بالعالم، وهو ما ينذر بموجة من الركود الشديد الذي لا يعرف منتهاه حتى يلوح في الأفق ما يؤكد أن الوباء حل به عدوه الذي قرر قتله دون رحمة. هذا النظام أصبح فاقداً للتوازن بعد أن أخرجته الجائحة عن مسيرته التنموية وتسببت بزيادة العجوزات في الميزانيات وتخلخل في موازين المدفوعات، وزيادة الدين العام، فضلاً عن الأضرار بإجمالي الناتج المحلي السابقة، وامتدت الأضرار إلى مداخيل الأفراد والمجتمعات وزيارة الأسعار. أثر الأزمة سينال من الاقتصاد والمال والاستثمار مما يخلق ركوداً اقتصادياً غير مسبوق وسيمتد الأثر السلبي ليخلق أزمات اجتماعية الأمر الذي يحتم إجراء إصلاحات اقتصادية جريئة تحل المشكلات الاجتماعية وتعزز العدالة في توزيع الدخول، ومن المهم أن تلعب البنوك المركزية دوراً أساسياً، تلعب في دعم الاقتصاد من خلال تطبيقها للسياسات المالية الرشيدة المدروسة بدقة للتعامل مع الأزمة الاقتصادية. إذاً اليوم الدول غنيها وفقيرها بحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى المبدعين المتسلحين بالمؤهلات والخبرات والوطنية المتفردة والصدق والإخلاص كل في مجال تخصصه، خاصة في ميدان الاقتصاد والمال والاستثمار والبترول والطاقة والإدارة والقانون..الخ، للعمل المنظم والتخطيط لوضع الرؤى حاضراً ومستقبلاً. للعمل يداً واحدة، فريقاً واحداً، هدفهم وضع الحلول الحالية والمستقبلية لمعالجة التجاعيد في النظام الاقتصادي الحالي الذي أحدثته الجائحة. وبذا تبرز أهمية التركيز على قطاعات منها: الاستثمار في القطاعات المنتجة. الاستثمار في القطاعات الصديقة للبيئة. المحافظة على حقوق الطبقة العاملة. التعليم بناء العنصر البشري. الصحة خلق قوة الجيش الأبيض. الصناعات الثقيلة والمتوسطة والصغيرة. ** ** - رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة

مشاركة :