موزة بنت جمعة المهيري.. عميدة الشعر الشعبي

  • 8/15/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

«توَ الشِّعر في خاطِرِي زَان تَوّه لِفَا وإفْتّجْ بَابَه» تخبرنا الشاعرة الكبيرة الراحلة «موزة بنت جمعة المهيري» في هذا البيت الشعري المكثّف، عن طبيعة توليفها لقصائدها وكيفية استقبالها للإلهام الشعري، وإنه إلهام متمنّع لا يفتح أبوابه إلّا إذا جاء الشعر بهيّاً ومتزيّناً ويغوي الخاطر، ومن هنا نفهم كيف استطاعت قصائد موزة المهيري الوصول بسهولة وبشكل سلس لأذهان وقلوب متابعي شعرها في مختلف مناطق الدولة، وكيف استطاع بوحها العفوي والمتصالح مع ذاته أن يخترق حاجز الزمان، وعَقَبَة المكان، وينتشر بين الناس، ويخاطب وعيهم الجمعي دون قصد أو تكلّف، وأن تنال بذلك لقب عميدة الشعر الشعبي في الإمارات. ولدت شاعرتنا في منطقة تدعى «لخصوب» سنة 1895 تقريباً، ورحلت عن عالمنا عن عمر يناهز 120 عاماً في سنة 2012 بمدينة العين، بعد أن قدمت نتاجاً شعرياً غزيراً، ضاع أغلبه بسبب ندرة التدوين عندما كانت موزة في أوج عطائها وقمة توهجها الشعري، كما أن العديد من الرواة الذين حفظوا شعرها رحلوا بدورهم، وأصبحت قصائدها القوية تلك رهناً للنسيان ووديعة للصمت، مما يجبرنا على إعادة السؤال المحيّر دائماً: ما هو مصير القصائد المنسية للشعراء والشاعرات الكبار لدينا؟ وكيف يمكن معالجة هذه الإشكالية التي حرمتنا من كنوز شعرية كان سيكون لها أثر مهم، ووقع كبير، ليس على المستوى الأدبي والثقافي فقط، ولكن على مستوى فهم الحياة القديمة ورصدها والتعرّف على ملامحها الاجتماعية والتاريخية في تلك الفترات المجهولة والغامضة بالنسبة لنا؟ ولولا الديوان الشعري الصادر عن مركز زايد للتاريخ والتراث التابع لنادي تراث الإمارات، من خلال جهود بحثية مقدّرة في هذا السياق، لأصبح الميراث الشعري المتبقي لموزة المهيري آيلاً للاندثار بدوره، ولما استطعنا الاطّلاع من خلال قصائدها على ملامح الفترة التاريخية التي عاصرتها شاعرتنا، وتفاعلت معها، وقدمت فيها جانباً من شخصيتها العارفة والمتمكنة، والمحيطة بالظروف الاجتماعية والتحولات النفسية والعاطفية التي وثّقتها وأوصلت مشاهدها وملامحها إلى الأجيال التالية، ضمن آلية التعاقب الزمني والتطوّر السوسيولوجي. تفتّحت القريحة الشعرية لموزة المهيري ضمن مناخ حافل ومزدحم بالشعر والشعراء في مدينة العين والمناطق المحيطة بها، ورغم عدم إلمامها بالقراءة والكتابة حتى رحيلها، فإن موزة المهيري استطاعت من خلال ذكائها الشخصي وقدرتها على الحفظ، أن تحيل القصائد الشفهية إلى صور ومشاهد وأنماط بصرية مطبوعة في ذاكرتها، ما دفعها بالتالي إلى نظم الشعر لاحقاً، والتعاطي معه باعتباره فنّاً اجتماعياً رفيعاً، ينقل صاحبه إلى مرتبة مرموقة، ومكانة لافتة، ومن هنا حازت شاعرتنا الوجاهة التي تستحقها والجاذبية التي صنعت لها كاريزما شعرية متوهّجة، وذلك من خلال قصائدها المتنوعة، وأغراضها الشعرية النابعة من الظروف المحيطة بها في زمن كان فيه الشعر هو البريد الافتراضي للناس، وقناة التواصل الوحيدة بينهم لنقل الأخبار ومعرفة التفاصيل الجديدة وتداولها بين المناطق القريبة والبعيدة. ويبرز الجانب التوثيقي للأمكنة واستعادة ملامح الماضي في شعر موزة المهيري من خلال قصائد كثيرة لها ثبّتت فيها أسماء بعض الأماكن المشهورة في الدولة، وتناولتها بطريقة تعبّر عن سعة خيالها في الوصف، ودقّة ملاحظتها في رصد التفاصيل البيئية والمناخية التي أثارت في دواخلها رغبة جامحة للتعبير عنها والاندماج معها، فنراها وهي تصف منطقة «عود المجيلة»، وما أصابها من تغيّر وغياب لملامحها الأصلية، وكلمة «المجيلة» يمكن أن تكون تحويراً لفظياً محليّاً لكلمة «المقيل» الفصحى، والتي تعني مكان القيلولة أو الراحة، تقول الشاعرة: «راح وينه (عود المجيلة) /‏‏‏ لي مديم وبارد ظلاله ياه ريحٍ شلّه بسيله /‏‏‏ وآزمت لعيون همّاله قلت أنا روحي بروّيله /‏‏‏ جاد ينقص عود من الهاله سرت صوب الوِرق بشكيله /‏‏‏ قال أشوف الحال لا تساله غير با نزرع تماثيله /‏‏‏ جان بانتعاض في إبداله» ففيما يشبه البكاء على الأطلال، توثّق الشاعرة موزة المهيري في قصيدتها هذه مشهدية التحوّل الدرامي للمكان، فعود المجيلة كمساحة جغرافية مخصصة للاستراحة بسبب طبيعة جوها البارد وانتشار ظلالها الوارفة، صارت أثراً بعد عين، عندما حوّلتها الرياح العاصفة إلى صورة معاكسة تماماً لما كانت عليه، ما جعل الناس يتحسّرون على ما أصاب هذا المكان الجميل، وفي تشبيه بلاغي نرى الشاعرة وهي تنقل شكواها وامتعاضها لحمام الورق، الذي يناجيها هو الآخر، ويتحسّر على الوضع الراهن لعود المجيلة، مع رجاء مشترك بينهما أن يعود الحال لأصله، أو أن يعثروا على مكان آخر شبيه له، ويوازيه في الجمال والبهاء والطبيعة الخلّابة. «قول الشِّعر» في قصيدة لها بعنوان «قول الشِّعر»، نتحسّس القوة التعبيرية لدى موزة المهيري من خلال قوتها الداخلية كأنثى قادرة على محاورة الشعراء الرجال وإثبات ذاتها في هذا السياق، حيث تردّ هنا على مشاكاة الشاعر «محمد بن سوّاده» قائلة: قول الشعر ماله معي طور /‏‏ يا غير باثيب المشاجاه يا بوجسيم اتغلّق الشور /‏‏ عند الذي يزهى بحنّاه والزين يبغي حظٍ يثور /‏‏ ماهوب صيده من تمنّاه مهضِّم عوده ومخصور /‏‏ يا محلى بيّة دعاياه يا عين حرٍّ فوق الوكور /‏‏ وإن عاد بالتلواح تدعاه مضرّي ماهوب مدحور /‏‏ ومشرِّغ وكل الناس تهواه لي من خِلِج ما شِرَب م الخور /‏‏ ولا سكن في دارٍ مضمّاه وفي القصيدة أعلاه مثال على حيوية شعر موزة المهيري وقدرتها على إدارة الزوايا البصرية من خلال التشبيه والاستعارة، والإظهار والإضمار، والمكاشفة والتورية، ضمن لعبة ذهنية شيّقة، تجعل من شعرها فضاءً حافلاً بالحركة وممتلئاً بنبض المفردات المتجانسة شكلاً، والمتمايزة ضمناً، فهي تخاطب الشاعر محمد بن سوّادة من خلال منظور يتسّم بالثقة والثبات والتحدّي، واصفة نفسها بالمرأة الصعبة القياد، فهي مثل الصقر الحرّ الذي ينظر له الناس بإعجاب، لأنه مسيطر على الفضاء الذي يحلّق فيه، ولا يُسْلِم قياده إلا للشخص الذي يجلّه، ويوفر له مناخ الاطمئنان والترحاب الذي يليق به وبمكانته. يا زين ينقل الرواة قصيدة للشاعرة موزة المهيري ترثي فيها زوجها، تقول فيها: «يا زين يا حلو الدلايل /‏‏‏ الخبر لفانا عوف لاماه الراس سويته بسايل /‏‏‏ والعين حطّت فوقها غطاه والريل باتت في ملايل /‏‏‏ والقلب في نارٍ مْوَرّاه والعين لو سوّت مخايل /‏‏‏ ومن العِبَر ما وقّف بكاه وازم ردوده من المحايل /‏‏‏ عليه يا ما طال فرقاه» ولا شك أن رحيل زوجها المأساوي هذا، وتحملّها لمسؤولية رعاية أبنائها بمفردها، كان لهما دور محوري في تكوين شخصيتها، وضخ شعرها بطابع متفرّد من المناجاة وإيراد التفاصيل المتعلقة بالشخوص والأماكن، خوفاً من فقدانها هي الأخرى، ولعل الشعر كان عزاءها الوحيد هنا للتغلب على آلامها وأحزانها، وبث الطاقة الإيجابية في روحها المنفتحة على جمال الطبيعة الصحراوية، خصوصاً تلك المتعلقة بمشاهد نزول الغيث وهطول الأمطار، وتوثيق المناسبات الاجتماعية المهمة، وكأن بمنظر هطول المطر يعيد بعث الفرح في دواخلها، ويساهم في تفتّح أزاهير الحياة في أعماقها، وتمكنّها بالتالي من مجابهة الظروف الصعبة وتخطّيها، انطلاقاً من الشعر ووصولاً إليه. سيرة ذاتية تروي السيرة الذاتية للشاعرة موزة بنت جمعة المهيري، وكما يذكرها لنا الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي، أنها عاشت مع أهلها في مناطق «براق» و«لظليما» و«لخصوب» و«بدع المغنّي» وأبوهرمة»، وفي الصيف يحضرون إلى «العين»، حيث توجد لهم مزارع للنخيل، وعندما بلغت شاعرتنا سن الزواج تقدّم إليها أحد أبناء قبيلة «آل بوعميم» الكريمة من طائفة «الحواضر»، وهو السيد حارب بن سيف بن حاضر العميمي، مضيفاً المزروعي، أن أسرة «الحواضر» من رعايا إمارة دبي، وكانوا يقيمون في منطقة «جميرا»، وهم رجال معروفون ومقتدرون ولديهم سفن للغوص، وقد استقرّ المرحوم حارب بن سيف وزوجته شاعرتنا مع أهلها في منطقتي «لخصوب» و«براق»، حيث ظل الزوج على اتصال مع أهله في الجميرا بدبي، ثم انضم إلى مهنة الغوص في الربع الأول من القرن الماضي مع أخيه المرحوم خميس بن سيف، فعملا غواصين في سفينة قريبهم ضاحي بن تميم، وظلوا لعدة سنوات يعملون في البحر خلال مواسم الغوص، وكانوا يعودون لأهلهم في دبي، بينما يعود حارب بن سيف إلى زوجته موزة بنت جمعة وأولاده في البر ما بين «العين» و«دبي»، حيث مناطق سكنهم، حتى رزقهما الله بأربع بنات وولدين، ويشير المزروعي إلى أنه في إحدى سفرات الزوج إلى الغوص، عندما كانت أعمار ابنيه سيف وسعيد لا تتجاوز العشر سنوات، جاءهم خبر وفاته، وكان ذلك في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، فتيتّم الأبناء والبنات وهم ما زالوا صغاراً، ما دفع شاعرتنا إلى التعهّد بتربية أبنائها وسط ظروف معيشية صعبة، ودونها الكثير من التعب والمعاناة والبحث عن مصدر بديل للرزق.

مشاركة :