التطبيع مع إسرائيل لا يعني التنازل عن الحقوق الفلسطينية

  • 8/15/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يرى محللون في العلاقات الدولية أن الإعلان المفاجئ عن قيام دولة الإمارات وإسرائيل بالاتفاق على تطبيع العلاقات بوساطة من الولايات المتحدة خطوة “تاريخية” تأتي ثمرة سنوات من الجهود الدبلوماسية خلف الكواليس، وهذا التحرك الذي حدد له الرئيس دونالد ترامب بوصلة مساره لبناء أسس جديدة في الشرق الأوسط الجديد يأتي في سياق العداء المشترك لإيران كما أنه ينبئ بالمزيد من التعاون بالنسبة إلى قضايا أخرى، بما في ذلك التحالف التركي القطري المتنامي، وبالتالي وضع الجميع أمام حقائق الواقع لتنفيذ صفقة القرن دون المساس بحقوق الفلسطينيين. لم يجد الذين انتقدوا الإعلان عن تطبيع العلاقات بين دولة الإمارات المتحدة وإسرائيل أفضل من الحديث عن تأثير الخطوة على الحقوق الفلسطينية لدغدغة المشاعر، وإثارة النعرات. وقد انطلق البعض سريعا باتجاه إبراز المزايدات السياسية والإعلامية وكأنهم قاموا بواجبهم السياسي والعسكري كاملا حيال القضية الفلسطينية، ورفعوا سيوفهم لتوجيه الطعنات في مشهد يبدو في ظاهره صحيحا، لكن يراد به باطل سياسي. وفي كل مرة يتمّ فيها التطرق إلى العلاقات بين دولة عربية وإسرائيل ترفع السهام الخشبية، ويتراجع تحليل السياق العربي والإقليمي والدولي الذي قاد لهذه النتيجة، وفقا لموازين القوى وحسابات المكاسب والخسائر، وما وصلت إليه القضية الفلسطينية من تردّ يتحمل جانبا منه أصحاب الصوت العالي حاليا، ومحور المقاومة سابقا. وعدد ممّن رفعوا أصواتهم عاليا أقاموا علاقات سرية مع إسرائيل، ويطبّعون معها ليلا ونهارا وفي الغرف المغلقة، ويخدمون أهدافها صراحة (قطر مثلا)، وعدد آخر يناصبها العداء ويقيم معها أفضل علاقات للتعاون السياسي والعسكري والتقني (تركيا مثلا). وعندما يقدم آخرون على أقل ممّا فعلوه في العلن يتناوبون صبّ اللعنات وتوجيه الاتهامات للتغطية على جرائمهم، أو للإيحاء بأن الكل في الهمّ شرق. ومن المتوقع أن توقع الإمارات وإسرائيل خلال نحو ثلاثة اسابيع حسب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في واشنطن اتفاقا تاريخيا يهدف إلى تطبيع العلاقات بينهما، لتصبح أبوظبي بذلك ثالث عاصمة عربية تتبع هذا المسار منذ إنشاء الدولة العبرية، وإن كانت قراءتاهما حول المشروع الإسرائيلي لضمّ أراض فلسطينية مختلفتين. المصالح الشخصية والوطنية لا يهم الوقوف عند هذه المسألة فهي حافلة بتفاصيل عديدة ومتناقضة، غير أن الكثير من التقديرات تربط دائما بين التطبيع وبين تقديم تنازلات عربية لإسرائيل، وكأنه علامة على هيمنة كاسحة على هذه الدولة وتلك، أو أن هناك ضغوطا يصعب تحمّلها أفضت إلى التضحية بالقضية الفلسطينية، والتي لم يفلح أصحابها الأصليون في الدفاع عنها. وفضّل هؤلاء مصالحهم الشخصية على نظيراتها الوطنية، ولو تنازلوا قليلا عن طموحاتهم الحركية والحزبية وتمكنوا من إيقاف الانقسامات لما وصلت الأوضاع إلى هذا المنحني، وما تجرأت دولة عربية على تجاوز الخطوط الحمراء. ويعي كثيرون أن التطبيع “ورقة التين” المهمة والتي يجب أن يكون ثمنها العربي غاليا، بما يساعد على استرجاع جزء من الحقوق المهضومة، وجرت مناقشات عديدة حولها على فترات متقاطعة، والربط بينها وإقامة الدولة الفلسطينية وفقا للقوانين الدولية، وجرى الاتفاق الضمني على تعليق التطبيع إلى حين تتاح الفرصة لتطبيق مبادرة السلام العربية. كما يدركون أن إقامة علاقات دبلوماسية لا يعني التخلي عن القضية الفلسطينية الأم. فمن واقع تجربة مصر التي عقدت اتفاق سلام منذ حوالي أربعين عاما لم يؤدّ القبول بعلاقات طبيعية، كأحد شروط التسوية السياسية بين القاهرة وتل أبيب، إلى تطبيع واسع على الصعيدين الرسمي والشعبي. وربما يكون المستوى الأول شهد نموا طفيفا، بحكم التشابكات الإقليمية والدولية، لكن لم يؤدّ إلى تغيير حاسم في الرؤية الرسمية لمصر تجاه إسرائيل، أو يحوّل الثانية إلى واحة للهدوء والسلام، أو حتى يجعل القاهرة تتراخى في دورها المساند للقضية الفلسطينية، فإن لم يكن من وازع دورها العربي، فعلى الأقل دفاعا عن أمنها القومي، الذي يعتبر إسرائيل الخطر الأول عليه في المنطقة. ولدى شق من المحللين قناعة بأن الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي يفتح المجال الآن للإمارات لأن تبدو نصيرة للحقوق الفلسطينية، لأنها كما يبدو أوقفت خطط إسرائيل لضمّ أجزاء من الضفة الغربية. التوظيف الحقيقي للسلام تتعدد الأزمات الداخلية والخارجية ولا تنس القيادة المصرية أن إسرائيل مثل السرطان، تريد أن تتمدد وتتغوّل، والإنكار لا يعني عدم الاعتراف بأن المرض سوف يزول تلقائيا، فالسرطان يحتاج إلى علاج مضن، تستخدم فيه الكثير من أنواع الأدوية والجراحات القاسية واللينة كي يتمكن الجسم من التغلب عليه وتقزيم تأثيره الخطير. ولم تحُل إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون التخلي عن إقليم سيناء، أو الاستسلام لتحويله إلى منطقة منزوعة السلاح، وعلى العكس انتشر الجيش المصري خلال الفترة الماضية في سيناء كما لم ينتشر منذ حرب أكتوبر 1973، وسُلح الجيش المصري بأحدث المعدات العسكرية، وأصبح من أهم الجيوش في المنطقة والعالم. وهل كل ذلك تمّ من أجل عيون التدخل في ليبيا أو حماية حقول الغاز المصرية في شرق البحر المتوسط، أم أن الحسابات الاستراتيجية حتمت التوازن مع الجيش الإسرائيلي القوي، والذي يعتمد على التفوق النوعي؟ ومن المفروض وسط كل ذلك تذكر تلك الحقائق عند الحديث عن الإعلان عن تطبيع العلاقات بين دولة عربية معتدلة وإسرائيل، فهي خطوة لها تفسيراتها العملية، في حالة دولة الإمارات، ولا تعني استسلاما من أي نوع، فقد جرى ربطها بوقف خطة ضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، بمعنى أن الإمارات لم تنس القضية الأم أو تتخلّ عن ثوابتها الرئيسية، ولم تقفز على الواقع العربي بكل مراراته. وعلى المستوى الشعبي، أخفقت إسرائيل في اختراق وجدان وعقل المصريين، وبذلت كل الجهود الممكنة للتطبيع ولم تستطع، على الرغم من مضي كل هذه السنوات، تحقيق نجاح لافت وكسر جدار الممانعة الشعبي، الذي يسير في اتجاه مخالف لما تريده تل أبيب، حيث تبدي الأجيال الجديدة في مصر والتي لم تعايش ذروة الصراع مع إسرائيل موقفا أشد صرامة ممن عايشوه قبل سنوات. ومنذ يومين، أخبرني ابني، وهو يدرس هندسة الكمبيوتر ولا علاقة له بالسياسة وتطوراتها، بأنه حذف من على صفحته “فيسبوك” شابا لاحظ أنه يدعو إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل بنعومة، ويحاول وضع السم في العسل، والترويج إلى أنها دولة عصرية بعيدة عن العنصرية. ويدل هذا الموقف على المكنون الصلب لدى الكثير من الشباب العربي، فعندما تأتي سيرة إسرائيل بطريقة إيجابية مبالغ فيها يتحسس أغلبهم عواطفهم، ويستنفرون عقولهم، كما يستنفرون همتهم الغائبة في رفض التعامل معها، فصورتها الذهنية محشورة في نطاق الغطرسة والتجني على الحقوق الفلسطينية. وهناك نماذج كثيرة لمصريين وعرب واجهوا مثل هذا الموقف أو غيره، بما يفيد أن التطبيع مسألة يصعب على الحكومات فرضها على الشعوب. وقد اشتكت إسرائيل مرارا للولايات المتحدة من تكاسل القاهرة في التطبيع معها، ولم تفلح جهود واشنطن أو غيرها في تغيير المعادلة الرافضة للانسياق وراء تطوير العلاقات بحجة السلام. ويأتي أقسى أنواع الرفض لإسرائيل وسياساتها وانتهاكاتها اليومية على الساحة الفلسطينية من خلال الرد عليها بالامتناع الشعبي عن التطبيع، حيث ظلت سنوات تحاول إقامة علاقات ثقافية ورياضية مع المجتمع المصري، ولم تفلح في اختراقه حتى الآن، ولا تزال جميع النقابات المهنية والنخب الثقافية والفنية ترفع شعار “لا للتطبيع”، مع أن العلاقات السياسية الرسمية تسير بوتيرة هادئة. وليس شرطا أن تقود العلاقات الدبلوماسية إلى تنازلات رسمية أو شعبية، وتكشف تطورات الحالة المصرية أن هناك أجواء قد تفرض القبول بالسلام مع إسرائيل، لكنها لا تصطحب معها مصالحة حقيقية، طالما بقيت الأطماع مستمرة، ومسلسل التجني على الحقوق الفلسطينية متواصلا، ولو انحنت إسرائيل وقدمت ما يمكن وصفه بـ”التنازلات” في إيقاف خطة الضمّ فهذا لا يعني أنها تسللت إلى الوجدان الشعبي العربي. وترتبط أزمة التطبيع بأهداف هذه الدولة في الوقت الحالي ومراميها البعيدة في المستقبل، وتتعلق بقدرة الدول العربية على الصمود والمقاومة فعلا وليس قولا، فقد سئمنا من الضجيج الذي أصبح إحدى أهم النكبات العربية، وتسبب في خيبات كثيرة، وفوّت فرصا كان من الممكن أن تعظم مكاسب وتقلل خسائر القضية الفلسطينية.

مشاركة :