شراء الهدايا عادة متجذرة في ثقافات المجتمعات، ولكنها أصبحت تشكل عبئا ثقيلا يرهق كاهل العديد من الأسر، بسبب الأزمات المالية والاقتصادية التي تشهدها البلدان العربية وتأثيرها على القدرة الشرائية للكثيرين. تعتبر الهدايا من التقاليد العريقة المتأصلة في الثقافات الاجتماعية للشعوب، لكن هذا التقليد بدأ يتراجع نسبيا في الآونة الأخيرة داخل العديد من الأسر العربية، رغم ما تحظى به الهدايا من قيمة رمزية تتجاوز في أحيان كثيرة قيمتها المادية، لترتبط بلحظات ومشاعر مميزة في حياة الكثيرين. وعمقت جائحة كورونا الأزمة المالية والاقتصادية التي تشهدها المجتمعات العربية، ما أدى إلى كبح جماح الطلب على الهدايا، إذ أصبحت هذه التقاليد تشكل عبئا على كاهل العديد من الأسر، ولم تعد قادرة على الاحتفال وتبادل الهدايا في الكثير من المناسبات كما في السابق. وقالت زينة التابعي وهي أم تونسية لطفلين صغيرين، إن الوضع الاقتصادي والسياسي “السيء” لبلادها، أثّر على قدرة عائلتها الشرائية، إلى درجة أنها لم تتمكن من شراء قالب حلوى أو لعبة لأطفالها في أعياد ميلادهم. وأضافت التابعي لـ”العرب”، “لم أستطع هذه السنة تقديم هدايا لأبنائي في أعياد ميلادهم، وأكثر ما بات يهمني هو توفير الطعام لهم، ولكن في القلب حرقة وغصة لأن أبنائي لم يستطيعوا الاحتفال بهذه المناسبة الهامة في حياتهم مقارنة ببقية أقرانهم من الأطفال”. وقالت سيدة جزائرية تدعى نوال إنها اضطرت وزوجها إلى الاستغناء عن بعض العادات التي كانوا يتبعونها خلال المناسبات العائلية المهمة مثل الاحتفال بذكرى زواجهما بسبب الظروف المالية الصعبة التي يعيشانها، مشيرة إلى أن أفراد عائلتها “لم يعودوا قادرين على تبادل الهدايا في الأعياد كما في السابق”. ويكشف غياب الهدايا عن عدة أسر عربية عن أوجه الحرمان المالي الذي لا يمكن أن يرسم وحده صورة كاملة عن آثار البؤس التي تمتد إلى انعدام أهم الاحتياجات الأساسية كالرعاية الصحية والمياه النظيفة والتعليم. لغة المشاعر لكن غالبية من تحدثوا لـ”العرب” لا يتصورون الحياة من دون هدايا يقدمها لهم أقاربهم وأصدقائهم وأحبائهم وتنطبع ذكرياتها في أذهانهم، وتتيح لهم الفرصة للتباهي أمام الآخرين. واعتبر الصحافي التونسي لطيف جابالله أن تقليد الهدايا لا يمكن أن يختفي لأنه تقليد مرتبط بعاطفة الحب والحب لا يمكن أن ينتهي أو ينقرض. وقال جابالله لـ”العرب”، “القيمة الحقيقية للهدية ليست في ثمنها، بل في تذكر الآخر المحبوب، والتعبير له عن مكانته الخاصة في قلبك وهذا أهم ما يسعده”. وأضاف “الظروف الاقتصادية وغلاء الأسعار وضعف المدخول وجميع العوامل المتعلقة بالماديات لم ولن تحل دون استمرار تبادل الهدايا بين الناس، بدليل أن الفقراء موجودون منذ الأزل وكانوا يهدون بما تجود بهم إمكانياتهم المالية”. وتابع جابالله حديثه موضحا “هناك عدة طرق لإضفاء المفاجأة على الهدية الرمزية رغم أن هذا العنصر موجود أصلا، وهو الطابع الرومانسي المشوق فيها، والذي يكشف عن عواطف مقدم الهدية واهتمامه بالطرف الآخر، وكمثال على ذلك علمت ذات مرة بالصدفة أن زوجتي تدخر بعض المال لشراء خاتم من ذهب وسننتظر أشهرا أخرى حتى تتمكن من شرائه، فما كان مني سوى منحها المبلغ الذي ينقصها بالكامل حتى أختصر عليها الانتظار وأدخل البهجة على قلبها، وقد كانت المفاجأة سارة، واعتبرت الخاتم هدية رائعة مني”. الهدايا غير المرغوب فيها، يمكن أن تُخلّف آثارا سلبية، على صعيد التصور الذي يكوّنه متلقي الهدية وآفاق العلاقة العاطفية مستقبلا ووسط هذا الاحتفاء بالهدايا من البعض، والشكوى لغيابها من البعض الآخر، يؤكد الخبراء على أهمية التعبير عن المشاعر بالهدايا، والسعادة التي يشعر بها مقدموها، وانتقال تلك المشاعر إلى المتلقين، ودور هذه الطقوس الاجتماعية في إرساء دعائم العرفان بالجميل والامتنان المتبادل بين الناس. ودرست أستاذة علم النفس بجامعة بريتيش كولومبيا إليزابيث دون، العلاقة ما بين السعادة والمال. وأجرت دراسة في كندا وأوغندا، قدمت فيها لعينة من الأشخاص مبلغا زهيدا من المال وطلبت من نصف المشاركين أن ينفقوه على أنفسهم، في حين طلبت من النصف الآخر إنفاقه على الآخرين. وأوضحت الدراسة أن الفريق الذي اشترى أشياء للآخرين شعر بسعادة دامت لفترة طويلة، على عكس الفريق الذي أنفق المال على مشتريات شخصية. وتقول دون في كلمة ألقتها في مؤتمر التكنولوجيا والترفيه والتصميم، المعروف اختصارا باسم (تيد) “كانت السعادة التي شعر بها الناس عندما استرجعوا اللحظة التي أنفقوا فيها المال على الآخرين، أكبر بشكل ملحوظ من السعادة التي شعر بها أولئك الذين أنفقوا المال على أنفسهم”. ورغم أن الأبحاث محدودة في هذا الشأن، فثمة أدلة تؤكد أن النساء والأطفال كلما تلقوا هدايا شعروا بفرح أكبر وبالرضا عن الحياة. وكشفت دراسات سابقة أن شعور المرأة بالرضا يعتمد على نوعية الهدايا التي تتلقاها، إذ أظهرت تقنيات تصوير الدماغ أن “مركز الإحساس بالرضا” في مخ المرأة يعمل عندما تتلقى هدية ثمينة من حبيبها أو زوجها، وهو ما يثير مشاعرها بشكل غير تقليدي ويُنسيها المشاكل والتعب. أحلام بعيدة المنال غير أن تقديم الهدايا الفاخرة من المعادن والعطور والملابس الثمينة قد أصبح في نظر السواد الأعظم من محدودي الدخل، أحلاما بعيدة المنال على الأقل في الظرف الحالي. وينصح الخبراء الأزواج بالتركيز على القوة الرمزية للهدية بدلا من السعر، فالهدية غير المكلفة لا تعتبر بلا قيمة كما يعتقد البعض، بل لها أثر ملحوظ في نفسية المتلقي، لما تحمله في طياتها من مشاعر رومانسية، ولطالما وصفها علماء النفس بخارطة الطريق للحب، وأنها أساس العلاقة العاطفية الناجحة والسعيدة، وبمجرد أن يتوقف الأزواج عن تقديم الهدايا لبعضهم، تبدأ جذوة الحب في الخفوت، ويعد ذلك من العلامات الأولى التي تنذر بانهيار العلاقة الزوجية. وبينما يتفاوت تقييم الهدايا من شخص إلى آخر، فإن الأزواج بشكل عام يهتمون بالمبادرات الرومانسية التي يقوم بها شركاء حياتهم للتعبير عن حبهم ورفع معنوياتهم. ويقول أستاذ علم النفس بجامعة كوب باليابان يوهسوك أوهتسوبو، إن الهدايا قد تكون رمزا لتجديد الالتزام العاطفي بين الزوجين. وتناول أوهتسوبو في بحث جديد مدى تأثير المحيط الاجتماعي على سلوكيات تبادل الهدايا بين شركاء الحياة. ولاحظ أنه كلما زادت دائرة معارف شركاء الحياة زادت المبالغ التي ينفقونها على الهدايا لشركاء حياتهم للدلالة على التزامهم نحوهم. اكتفاء الزوجين بالأساليب المعتادة في عيد الحب والزواج، كإهداء الشكولاتة أو الورود، لن يحسن علاقتهما ما دام أحدهما منشغلا عن الآخر بالعمل أو بغيره وشدد علماء الاجتماع على ضرورة قراءة شخصيات شركاء الحياة قبل التفكير في تقديم هدايا لهم، وحذروا من الاعتماد على المزاج الشخصي، لأن لكل فرد اهتماماته وميوله الخاصة. وأكد الاختصاصي النفسي والاجتماعي فرانسيس ستراك من جامعة فيرزبورغ الألمانية أن أسهل طريقة هي أن يضع المرء نفسه مكان المتلقي ويفكر في ما يريده. وأوضح أن التخطيط المسبق من شأنه أن يساعد على تفادي الشراء المتعجل لهدية قد تكون باهظة الثمن، لكنها لا تتضمن أي معان إنسانية يمكن أن تمس مشاعر المهدى له. وقال باحثون من جامعة شتوتغارت الألمانية إنه من حسن الحظ أن الرجل يستطيع أحيانا أن يقدم للمرأة هدية ممتعة كدعوة على العشاء أو السفر في رحلة قصيرة، مشددين على أن اكتفاء الزوجين بالأساليب “المعتادة” التي يتبعانها في عيد الحب والزواج، كإهداء الشكولاتة أو الورود، لن يحسن علاقتهما، ما دام أحدهما منشغلا عن الآخر بالعمل أو بغيره. وأظهرت إحدى الدراسات أن البعض يميلون عند شراء هدية ما إلى التركيز على شخصية مُتلقيها والخصال التي تميزه عن أقرانه. لكن هذا الإفراط في التركيز على السمات التي تميز من يتلقون هدايانا، قد تجعلهم يتجاهلون جوانب أخرى تتعلق برغباتهم واحتياجاتهم، ما قد يؤدي إلى إهدائهم أشياء أقل أهمية بالنسبة لهم. لكن ذلك لا يعني أن الأزواج لا يهتمون أيضا بقيمة الهدية، فقد أشارت دراسة نشرت في عام 2015 إلى أن المتلقين لم يفرحوا بالهدايا بعدما اكتشفوا أنها كانت رخيصة الثمن. وتقول إليزابيث دون إن “اختيار الهدية الخطأ ينطوي على مخاطرة بالنسبة للعلاقات القائمة بينك وبين من منحتها له، لأن ذلك يفيد بأنه ما من أشياء مشتركة بينكما”. وشاركت دوَن في تأليف كتاب “المال السعيد: الجانب العلمي للإنفاق ببهجة أكبر”. وأظهرت الأبحاث التي أجرتها أن الهدايا غير المرغوب فيها، يمكن أن تُخلّف أحيانا آثارا سلبية، على صعيد التصور الذي يكوّنه متلقي الهدية لآفاق العلاقة في المستقبل، مع من منحه إياها. لكن ما هو مؤكد أن مثل هذه الطقوس الاجتماعية لا يمكن أن يعفو عليها الزمن، وستبقى لدى معظم الناس دوافع لا إرادية تحفزهم على اقتناء الهدايا للمقربين منهم رغم ما تنطوي عليه من تفاصيل، مبهجة كانت أو محرجة.
مشاركة :