من العبارات التي تتردد على مسامعنا كثيراً للإشادة بالزمن الماضي والتحسر عليه: (راحوا الطيبين، زمان الطيبين، الله على أيام زمان)، وهي عبارات نستعيد بها ذكريات جميلة كان الطعام فيها ألذ، والأطفال أكثر تهذيباً، والفن أجمل وأرقى، والناس أطيب، والحياة أبسط وأقل تعقيداً. والواقع أن هذا الميل لاسترجاع «الماضي الجميل» ليس حكراً على الثقافة العربية، بل إنه موجود في معظم دول العالم، ففي الإنجليزية مثلا هناك عبارة موازية هي (Good Old Days) أي «أيام الماضي الطيبة». السؤال هو هل كان الماضي فعلا بذلك الجمال وتلك الروعة مقارنة بالحاضر؟ هل كان الطعام ألذ والناس أطيب والأسعار أقل والحياة أسهل والفن أكثر ذوقاً ورقياً؟ الإجابة في اعتقادي هي لا، فالطعام كان يقتصر على صنف واحد أو صنفين لا يمكن مقارنتهما بما هو متوفر اليوم ولله الحمد كمَّاً ونوعاً، والناس في الماضي مثلهم في الحاضر فيهم الطيب والسيىء، والفرق هو أن دائرة معارفنا ومعرفتنا كانت ضيقة جداً مقارنة بما أتاحته لنا اليوم وسائل الاتصال والتنقل الحديثة، والتي جعلتنا قادرين على رؤية «الطيبة والسوء» في المجتمع بحجمها الحقيقي، والأسعار كانت أقل فعلاً لكن الدخل كان أقل بمراحل. ولست أرى أن الحياة كانت أسهل خاصة حين أتذكر والدتي رحمها الله وهي تقضي ساعات تغسل ملابسنا في «الطشت» حيث لا مكائن غسيل، وتكنس البيت بمكنسة الخوص وتطبخ طعامنا على الدافور، وتخيط بالإبرة شقوق ثيابنا تحت ضوء الفانوس أو الإتريك. وعندما أتذكر كيف كنت أقطع أكثر من عشرة كيلومترات ذهاباً وإياباً للمدرسة حيث لا يمتلك السيارات الا قلة غنية. ولا أعرف كيف كنا نعيش دون مكيفات ولا وسائل ترفيه أو جوالات وانترنت. أما الفن، فرغم أني لا أجد مجالاً للمقارنة بين فن أم كلثوم وفريد وفيروز مع معظم فناني وفنانات اليوم، الا أني أؤمن في المقابل بأن لكل جيل ذائقته ومن غير العدل فرض معايير جيل على جيل آخر. لماذا إذاً يميل الناس في كل مكان للتغني بـ «الماضي الجميل» رغم ما به من مصاعب تفوق ما في الحاضر بكثير؟ البروفيسور كاري مورويدج من جامعة كارينجي خلص في دراسة أجراها الى أن الناس بطبيعتهم يميلون لتعمد تجاهل تجاربهم السلبية الماضية والهرب منها عبر النظر لماضيهم بعدسات وردية لا تعكس الحقيقة، فالحكم على الماضي يكون -بتحيز- وفق أجمل لحظاته فقط، بينما الحكم على الحاضر يكون بواقعية وفقاً للحظاته الجميلة وغير الجميلة، وهذا هو سر تغنينا الدائم بالماضي. خلاصة الدراسة -وهذا المقال أيضاً- هي أن علينا ألا نسمح لأوهام الماضي الوردية غير الواقعية بحرماننا من الاستمتاع بجمال الحاضر ومباهجه الكثيرة. باختصار، أحبوا حياتكم .. تحببكم.
مشاركة :