معجزة نهر الهان التكنولوجية | | صحيفة العرب

  • 8/17/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

انظر حولك في المنزل، سترى جهازا إلكترونيا من سامسونغ أو إل.جي، اخرج إلى الشارع لدقائق، ستمر من أمامك أكثر من سيارة تحمل ماركة هيونداي، أو قد تكون أنت نفسك تمتلك واحدة منها. ومن بين 5 مليارات شخص يستخدمون الهاتف الذكي في العالم، مليار منهم يستخدمون واحدا من صنع سامسونغ. فكيف استطاع بلد صغير يحتفل بالذكرى 75 ليوم التحرير، أن يحقق ما بات يعرف بمعجزة نهر الهان؟ لندن – كوريا الجنوبية نجحت خلال العقود الماضية في تحقيق معجزة حولتها من دولة تئن تحت وطأة الحروب والصراعات الداخلية، واقتصاد يعتمد تماما على الزراعة وصيد الأسماك، ومستوى تعليم منخفض، إلى دولة تمثل قوة اقتصادية عالمية. وعندما كان العالم يحلم بالتحكم في أجهزة التلفاز أو التكييف بواسطة الريموت كنترول، كانت كوريا الجنوبية تحلم بسيارات دون سائق، وروبوتات تعد القهوة والشاي، وتقنيات تتحكم بمياه الأمطار. سنوات عجاف اللافت في التجربة الكورية هو الدور المحوري الذي لعبه العلم، فلقد أدركت سول مبكرا أنه لا أمل لنهضة البلاد إلا بتحقيق طفرة علمية وتكنولوجية تمكنها من تعويض افتقارها الشديد للموارد الطبيعية. على مدى 35 عاما، وصفت بالعجاف، بقيت كوريا محتلة من قبل اليابان، حتى اللغة الكورية تم استبدالها بالإكراه. وبعد نيلها استقلالها من اليابانيين عام 1945، الذين انهزموا في الحرب العالمية الثانية، قسمت كوريا بين الاتحاد السوفييتي شمالاً والولايات المتحدة الأميركية جنوباً. دوغلاس ماك آرثر: لن تقوم لكوريا قائمة قبل مرور قرن من الزمن على الأقل دوغلاس ماك آرثر: لن تقوم لكوريا قائمة قبل مرور قرن من الزمن على الأقل أعلنت كوريا الجنوبية استقلالها عام 1950، ولكن لم يمر وقت طويل حتى قامت كوريا الشمالية بغزو جارتها الجنوبية، متجاوزة خط العرض 38 الفاصل بينهما لتبدأ الحرب الكورية 1950-1953، ليعلن عن انقسام الكوريتين رسمياً. خرجت كوريا الجنوبية من القتال باقتصاد منهك ومتخلف دفع بالجنرال الأميركي، دوغلاس ماك آرثر، للقول إن كوريا لن تقوم لها قائمة قبل مرور قرن من الزمن على الأقل. ولكن ما أنجزه الكوريون خلال عقدين من الزمن، يعتبر معجزة، خاصة إذا علمنا أن الجنرال آرثر هو من قاد قوات جنوب غرب المحيط الهادئ في الحرب العالمية الثانية، وأشرف على احتلال الحلفاء الناجح لليابان بعد الحرب، وفي تحرير الفلبين وقاد قوات الأمم المتحدة في الحرب الكورية. ما تحقق في كوريا الجنوبية بعد سنوات قليلة، ليس فقط معجزة بمقياس دول شرق آسيا، بل هو معجزة بمقياس دول العالم أجمع. كلمة السر التي تقف وراء نجاح كوريا الجنوبية، هي التكنولوجيا، صحيح أن هناك العديد من السياسات والإجراءات التي قامت بها الدولة بهدف النهوض بكوريا من دولة فقيرة إلى دولة متقدمة، وشملت تطوير المؤسسات والتشريعات والسياسات الاقتصادية والمالية، وسياسات الاستثمار والتجارة الدولية، والتنمية البشرية، إلا أن سياسة العلوم والتكنولوجيا طويلة الأمد كانت الرافعة الأساسية لتضافر الجهود وقيادة دفة النهضة، من خلال تحديد أهداف تنموية طويلة الأجل، وفي قطاعات رائدة وصفت أحياناً بأنها مغامرة. وقد شرح هذه المكونات والسياسات الاقتصادي المعروف الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد مايكل سبنس، في دراسته لعدة دول حافظت على نموها الاقتصادي لفترة طويلة. عام 1961 شكل نقطة الانطلاق في مسيرة النهضة الشاملة التي شهدتها كوريا الجنوبية وذلك مع وصول الرئيس، بارك تشونغ هي، الدكتاتور العادل، إلى الحكم وإصراره على انتشال البلاد من الفقر إلى الثراء عبر خطة اقتصادية خماسية متكاملة حققت نموا اقتصاديا سنويا بمعدل 9.8 في المئة في الفترة الممتدة بين عامي 1962 و1966. كيانات عملاقة نظام تعليمي أسهم في مسيرة التنمية نظام تعليمي أسهم في مسيرة التنمية وشهدت تلك الفترة ظهور مصطلح (شايبول) الذي يرمز إلى سياسة اقتصادية قائمة على تقديم الدعم المالي والإعفاءات الضريبية للشركات الكبيرة، التي تديرها عائلة واحدة، بهدف تحويلها إلى كيانات عملاقة تسهم في تعزيز قوة اقتصاد البلاد بأسرها، وتعتبر سامسونغ، ودايو، وهيونداي، من أبرز الشركات التي استفادت من تلك السياسة. ووضعت الحكومة رؤية وخطة طويلة الأمد ارتكزت على تطوير التكنولوجيا، ابتداء من التوطين وانتقالاً إلى التطوير، اقترضت في البداية واستثمرت القروض والمنح أحياناً في ما هو استراتيجي يخدم الغاية الأساسية، فركزت على شراء التكنولوجيا والمعدات والمواد الخام، وبناء المصانع، وتأهيل المؤسسات التعليمية. واعتمدت الدولة خططاً يتم متابعة تنفيذها وتقييمها للتأكد من أنها تصب في الرؤية طويلة الأمد، وتحقق النمو الاقتصادي المطلوب، وقد بلغ قيمة قياسية في بداية التسعينات، وإذا قِسنا هذه القفزات الاقتصادية باستخدام الناتج القومي للفرد فقد ارتفع من 63 دولاراً في سنة 1950 إلى حوالي 27000 دولار في سنة 2015. انصب اهتمام كوريا الجنوبية في تلك الفترة على المهارات التقنية وتطوير الصناعة، وخفض كلفة الإنتاج بهدف تعزيز الصادرات، وبالفعل فقد نجحت في صناعة أول سيارة من نوع هيونداي، وأسست شركة دايو الشهيرة، وفي أواخر الستينات أصبحت سامسونغ أفضل شركة لتصنيع التلفزيون عالمياً. التطور يمكن ملاحظته بسهولة أينما اتجهت في البلاد. حتى محطات الأنفاق، رغم وجودها عميقا تحت الأرض، زودت بأحدث وسائل التكنولوجيا وبمعدات توفر الراحة وسهولة الوصول للإنترنت، لكي لا تضيع رحلة تنقل الطلبة بين الجامعات والبيت هباء، فالطلبة يستغلون هذا الوقت بالعمل على بحوثهم، ويعود الفضل في كل هذا إلى توفر خدمات الإنترنت السريعة في كل مكان. ويركز نظام التعليم في كوريا الجنوبية على تشجيع الطلبة والتعرف إلى مواهبهم وكفاءتهم في مرحلة مبكرة، ومتابعة تعليمهم الذي يركز على المهنة طوال مراحل الدراسة الابتدائية والإعدادية والثانوية. ثقافة الاجتهاد والعمل التكنولوجيا.. كلمة السر التي تقف وراء نجاح كوريا الجنوبية التكنولوجيا.. كلمة السر التي تقف وراء نجاح كوريا الجنوبية يتفاخر الكوريون بأن بلادهم أسست للتكنولوجيا، عن طريق تعليم الأطفال منذ الصغر، وأن المدرسة تكافئ طلابها على اختراع يأتون به حتى لو كان فاشلا. وتمكنت كوريا الجنوبية من تأسيس نظام تعليمي أسهم بشكل كبير في مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي عام 2012 بلغت ميزانية التعليم 47 مليار دولار أميركي وهو ما يمثل 16.3 في المئة من ميزانية الدولة في تلك الفترة. ويعتبر نظام التعليم في كوريا الجنوبية، من الحضانة حتى المرحلة الثانوية، واحدا من أفضل النظم التربوية والتعليمية في العالم، فقد حصلت على المركز الأول في تقرير بيرسون لعام 2014 عن أفضل نظام تعليمي في العالم في المهارات المعرفية والتحصيل العلمي. وتتميز كوريا الجنوبية بأعلى معدل للالتحاق بالتعليم العالي على مستوى العالم، كما أن معدل إنفاق العائلات في كوريا الجنوبية على التعليم يفوق معدل إنفاق نظيراتها في الدول الأخرى بأربع مرات. ولقد لعبت مراكز البحث والتطوير والجامعات دوراً مهماً في بداية النهضة الصناعية لمساعدة الصناعة والشركات لنقل وتوطين التكنولوجيا، بسبب عدم قدرة الشركات في حينها، وقلة الخبرات الفنية، وكان ذلك فترة الثمانينات؛ حيث كان التركيز على تطوير وتعزيز الصناعات الغنية بالتكنولوجيا وليس بالضرورة كونه إنتاجاً معرفياً أصيلاً أو تكنولوجياً جديداً لكنه كان تطويراً ويدر أرباحاً كبيرة حينها. ومن ثم انتقلت الإستراتيجية إلى التطوير والابتكار بمساعدة هذه المراكز البحثية، بالإضافة إلى مراكز الأبحاث والتطوير في الشركات الصناعية التي أصبحت مصدراً رئيسياً للابتكار، فلقد أصبحت تعتمد على نفسها كثيراً؛ حيث تبلغ ميزانية البحث والتطوير لأحد مراكز سامسونغ مثلاً ما مجموع جميع المراكز الحكومية التي تتجاوز 25 مركزاً علمياً، كما ذكر لنا أحد المحاضرين هناك. ثقافة الاجتهاد والعمل الجاد ساعات طويلة، واعتبار التعليم المدخل الرئيسي لحياة كريمة ومتميزة، جعل الطالب المحرك الرئيسي في منظومة التعليم، فلا يعرف عن كوريا استثمارها الكبير في التعليم إلا أنها قامت بتعديلات جوهرية كبيرة في نظامها التعليمي، فقد عدلته 7 مرات منذ عام 1954؛ ليتماشى مع الاحتياجات الوطنية والاستراتيجيات التنموية، وخصوصاً سياسة العلوم والتكنولوجيا، وهي تحتل هذا العام المركز الأول عالمياً في التعليم الأساسي. وقامت الدولة بتصميم نموذجها الخاص مستعينة بتجارب الآخرين، وخصوصاً تجربة جارها المارد الياباني العنيد. فمثلاً، لم تتبع الدولة النظام الرأسمالي الأميركي في مشروع نهضتها، رغم أنها تلقت دعماً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً منها، لكنها استخدمت أسلوبها الخاص المتمثل بدعم الصناعة والشركات الكبرى بشكل مباشر، ولكن لفترة معينة، ثم تركتها تعتمد على نفسها وسمحت للفاشلة أن تخرج من السوق، أما الشركات الصغيرة فما زالت هناك برامج دعم مالي وتقني، لكن ضمن منهجية تشجع استغلال نتاج المؤسسات البحثية. وما زالت الدولة تلعب دور الأب الحاني، ولن تترك هذا الدور أبداً، فثقافتهم “الكونفوشية” ما زالت متأصلة فيهم، واستفادوا منها في نظامهم الاجتماعي والمهني الصارم، والذي خدمهم في موضوع التعليم، فالمعلم سر نجاح العملية التعليمية، وله مكانة خاصة في قلوب المتعلمين وراتبه الحكومي ممتاز. في عام 1997 وقعت أزمة النمور الآسيوية، تلاها انهيار اقتصادي، اضطرت كوريا على إثره إلى اللجوء إلى البنك الدولي لاقتراض 58 مليار دولار، وبدا أن البلاد أمام مستقبل مجهول، إلا أن ما فعله الكوريون الجنوبيون في الأيام التالية للأزمة المالية، أدهش العالم بأسره. القصة عرضها تقرير أنتجته “بي.بي.سي” عام 1998، كشف عن تكاتف الشعب مع الدولة، حيث بادر الشعب والشركات إلى التبرع للدولة بالذهب من مدخراتهم الشخصية؛ لتتم إذابته وبيعه بالأسواق العالمية. وفي غضون ثلاث سنوات سددت كوريا الجنوبية قرض البنك الدولي، وقفزت عائدات صادراتها الخارجية إلى 99 مليار دولار عام 2001. ولم يكن ذلك ضمن نداء رسمي من الدولة، بل مبادرات مجتمعية، وذكر أحدهم من الجيل الذي شهد النهضة، أنه كان سعيداً برد الجميل للدولة التي منحتهم الرخاء والحياة الكريمة وهي الآن في شدة، فكأنها لهم صديق أحبوه وعرفوه وقت الرخاء والضيق، وقد ذكر أنه تم جمع عشرة أطنان من الذهب خلال أول يومين من الحملة الشعبية. نمو رغم كورونا كوريا الجنوبية تحتل المراكز الأولى ببراءات الاختراع سنويا كوريا الجنوبية تحتل المراكز الأولى ببراءات الاختراع سنويا مظاهر التكنولوجيا الكورية لم تقتصر على منتجات محددة، فعلى سبيل المثال تعتبر الشبكة العنكبوتية فيها واحدة من أسرع الشبكات في العالم، متبوئة المركز الأول، تليها النرويج في المركز الثاني. وتعتبر كوريا الجنوبية اليوم من أكبر الكيانات الاقتصادية في العالم، فهي ثالث أكبر مصدّر لأشباه الموصلات في العالم، وأحد أبرز مصنعي السيارات والهواتف المحمولة، وجميع أنواع التقنية الحديثة، كما تحتل المراكز الأولى ببراءات الاختراع سنوياً، واقتصادها يضيف ما بين 180 إلى 300 ألف وظيفة كل عام، وتسجل صادرات تقدر بـ580 مليار دولارا في السنة. وفي عام 1972 أطلقت كوريا الجنوبية برنامجاً للتصنيع الثقيل، تحولت معه في غضون عشر سنوات، إلى أكبر مجمع لصناعة الفولاذ في العالم، ومقرا لثاني أكبر شركة لبناء السفن على وجه الأرض. وتوقع تقرير صادر مؤخرا عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ارتفاع ترتيب كوريا الجنوبية في التصنيفات العالمية للناتج المحلي الإجمالي بثلاث درجات إلى المرتبة التاسعة في عام 2020 على الرغم من الانكماش الاقتصادي الذي يشهده العالم نتيجة تداعيات فايروس كورونا.

مشاركة :