شهدت بيروت، في 4 آب/ أغسطس 2020، انفجارًا غير مسبوق نجم عنه تدمير مرفأ المدينة كليًّا. وقد أودى الانفجار بحياة أكثر من 170 شخصًا، وأدى إلى إصابة آلاف الجرحى، وتشريد نحو ربع مليون شخص؛ نتيجةً للدمار الذي لحق بمنازلهم. وجاءت آثار التفجير الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مضاعفة، نظرًا إلى حدوثه في مرحلة أزمات اقتصادية وسياسية تعصف بالبلاد؛ من انهيار سعر صرف الليرة، وأزمة القطاع المصرفي، إلى الخلافات السياسية بين تحالف “حزب الله” والتيار الوطني الحر (العونيون) المهيمن على البرلمان والحكومة من جهة، وخصومهم السياسيين من جهة أخرى. ظروف التفجير وتداعياته الأولية لقد راجت نظريات عديدة حول أسباب الانفجار، بما فيها تلميح الرئيس ميشال عون إلى احتمال حصول اعتداء خارجي. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ الفرضية الراجحة هي حصول حادث أدى إلى انفجار أكثر من 2700 طن من مادة نترات الأمونيوم الشديدة الانفجار كانت مخزنة بطريقة غير آمنة في أحد عنابر مرفأ بيروت، وذلك رغم تحذيرات متتالية بشأن خطورة بقائها في المرفأ؛ ما يعني أنّ سبب الانفجار، الذي قد يكون عرضيًّا، ليس هو القضية الرئيسة، بل إنّ وجود مواد متفجرة بهذا الحجم وبهذه الخطورة في المرفأ منذ عام 2013، فضلًا عن سبب وجودها أصلًا، وعدم قيام أي حكومة من الحكومات التي توالت على لبنان منذ تلك الفترة – التي شملت جميع القوى السياسية – بفعل شيء للتخلص منها. إنّ السماح بتخزين هذه المواد الخطرة، يُمثل تقصيرًا كبيرًا غيرَ مبررٍّ من جانب السلطات القائمة على المرفأ، ومن طرف المسؤولين السياسيين أيضًا؛ إذ تناوب على السلطة منذ رُسوِّ الشحنة في ميناء بيروت رئيسَا جمهورية (ميشال سليمان، وميشال عون)، وأربعة رؤساء حكومة (نجيب ميقاتي، وتمام سلام، وسعد الحريري، وحسان دياب)، وعدد من وزراء الأشغال والداخلية المسؤولين مباشرة عن الميناء. ويشمل التقصير في هذه القضية، عمليًّا، كل أركان ما بات يسمى “الطبقة السياسية”، التي خرج المحتجون يطالبون برحليهم من دون استثناء، في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، نظرًا إلى الوضع الذي أوصلت إليه البلاد. وبغضِّ النظر عن معنى هذا المطلب “غير السياسي”، والكيفية التي يمكن من خلالها أن ترحل جميع القوى والأحزاب السياسية (المتصارعة أصلًا فيما بينها)، فإن المطلب في حدِّ ذاته يعكس مشاعر حقيقية من النقمة في الشارع اللبناني على النظام السياسي والنخبة التي أنتجها. ولم تخل ردود الفعل من التسييس؛ فقد جاء الانفجار في مرحلة أزمة اقتصادية خانقة تبيّن خلالها أن تحالف حزب الله وحركة أمل والتيار العوني لا يمكنه حكم لبنان وحده. وقد استغلت القوى السياسية المعارضة الانفجار لتأكيد ذلك مرة أخرى ولا سيما مع تفجر الغضب الشعبي. ومع أن الحكومات السابقة تتحمل القدر الأكبر من المسؤولية بشأن ذلك التقصير، ولا سيما أنها كانت حكومات ذات قواعد اجتماعية وسياسية، فإن الفشل بلغ ذروته مع حكومة حسان دياب التي جاءت إلى الحكم في مطلع 2020. فقد كانت هذه الحكومة مجرد واجهة لصناع القرار الحقيقيين الذين تهربوا من مواجهة الشارع بعد حراك تشرين الثوري (أي الذي بدأ منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2019)، واختبؤُوا خلف ما سمي زورًا “حكومة تكنوقراط”، مع أنّ أطرافًا سياسية تدعمها وأطرافًا أخرى تعارضها وتعزلها محليًّا ودوليًّا. لقد بدت الحكومة عاجزة فعليًّا عن التحرك وتحمُّل مسؤولياتها، خاصة بعد التفجير الذي دمر المرفأ ومبنى الإهراءات، وألحق أضرارًا متفاوتة بمناطق محيطة (مثل الجميزة، والأشرفية، ومار مخايل، والوسط التجاري، ورأس بيروت)، حيث وقعت المسؤولية كليًّا، تقريبًا، على قوى المجتمع والمنظمات الأهلية لسد الفراغ الذي خلَّفه غياب أجهزة الدولة الواضح. وقد بدت مشكلة الدولة اللبنانية التي أنهكها نظام المحاصصة والفساد ونفوذ زعماء الطوائف، كأنها مشكلة حكومة لا حول لها ولا قوة. وكان توجيه بعض السخط الشعبي إلى هذه الحكومة أمرًا مريحًا بالنسبة إلى أقطاب النظام اللبناني الحقيقيين. تفاوتت التقديرات بشأن الخسائر، لكنها راوحت – في المجمل – ما بين 10 و15 مليار دولار، لتُضاف إلى مبلغ مماثل يحتاج إليه لبنان لتحفيز اقتصاده والخروج من الأزمة المالية الحالية. وتوزع قسم كبير من الأضرار على مناطق تقطنها غالبية مسيحية، وانعكس ذلك سلبيًّا على فريق الرئيس ميشال عون، أي التيار الوطني الحر برئاسة صهره جبران باسيل؛ ما يعني احتمال تغير الأوزان السياسية للكتل والأحزاب المسيحية في أي انتخابات مقبلة، سواء جاءت مبكرة أو ظلت في موعدها بعد عامين. كما تبين أنه ليس بوسع حزب الله والتيار العوني الانفراد بحكم لبنان والاستغناء عن القوى الأخرى، وهذا يعني تراجع حصة هذا التيار في أي حكومة قادمة. كسر الطوق وسقوط الحكومة استدعى الانفجار، نظرًا إلى حجمه والدمار الهائل الذي تسبب به، وسقوط عدد كبير من الضحايا فيه، تعاطفًا دوليًّا واسعًا، ترجمه كمٌّ كبيرٌ من المساعدات التي وصلت إلى لبنان من مختلف أنحاء العالم. وقد أدى ذلك أيضًا إلى فك الطوق المفروض على لبنان نتيجة سياسة العقوبات الأميركية، وما رافقها من اتهامات لـ “حزب الله” بالهيمنة الكاملة على لبنان بعد تشكيل حكومة حسان دياب. ورغم المحاولة السافرة التي قام بها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، من أجل استغلال الانفجار سياسيًّا، في إطار محاولة فرنسا أداء دور في شرق المتوسط، فقد شكّلت زيارته إلى بيروت الخطوة الأبرز في هذا الاتجاه، واستغل ماكرون الغضب الشعبي وتأثُّر بعض الأحياء البيروتية التي زارها بالثقافة الفرنسية ليبدو كأنه المنقذ. وعقد ماكرون اجتماعًا في قصر الصنوبر، حيث السفارة الفرنسية، ضمّ رؤساء جميع الكتل النيابية، طرح خلاله مبادرة تقضي بتشكيل حكومة وحدة وطنية ضمن مهلة زمنية تنتهي في 1 أيلول/ سبتمبر المقبل. واتسم الاجتماع برمزية سلبية وطنيًّا؛ إذ يقف لبنان على عتبة الذكرى المئة لقيام الانتداب الفرنسي على دولة لبنان الكبير، وقد جرى الإعلان عنه من قصر الصنوبر نفسه. نتيجة الدمار الهائل الذي تسبب به التفجير، والصدمة التي تبعته، والتضامن الكبير الذي ظهر بين أهالي بيروت وبقية المناطق اللبنانية، وتحميل الحكومة المسؤولية، قدَّم عدد من الوزراء استقالاتهم؛ ما اضطر رئيس الحكومة حسان دياب إلى تقديم استقالته أيضًا. ولم يجد دياب مناصًا من انفراط عقد تركيبته الوزارية، ولا سيما أن رئيس مجلس النواب نبيه بري عيّن موعدًا لاستجوابها في البرلمان على خلفية تفجير المرفأ. ويبدو أن بري أراد إسقاط الحكومة في المجلس النيابي ردًّا على دعوة رئيس الحكومة، القليل الخبرة، إلى إجراء انتخابات مبكرة، الأمر الذي أثار استهجان رئيسَي مجلس النواب والجمهورية، نظرًا إلى أن أي انتخابات مبكرة ستعيد، على الأرجح، تشكيل المجلس بطريقة مغايرة لوضعه الحالي (تُعد كتلة رئيس الجمهورية الكتلة الأكبر في البرلمان الحالي). اتجاهات الأزمة أسفر الانفجار الذي هزَّ لبنان عن فتح عدة مسارات متوازية على المستوى السياسي. تمثل الأول في استقالة حكومة حسان دياب، والتوجه نحو تشكيل حكومة وحدة وطنية تقوم بإجراء الإصلاحات المطلوبة التي اشترطتها جهات دولية عديدة لمساعدة لبنان على الخروج من أزمته الاقتصادية، على الرغم من أن حكومة وحدة وطنية تعني ترسيخًا لنظام المحاصصة الطائفي. ومن ناحية أخرى، فإن الأزمة فتحت الباب لطرح مطالب الحركة الاحتجاجية ومطالب قوى سياسية مجددًا، متمثلة بإجراء انتخابات نيابية مبكرة وفق قانون انتخابي أكثر تمثيلًا، يطوي صفحة عهد الرئيس عون الذي بات عنوانه العريض “الفشل”، على كل الصعد. يرتبط المسار الثاني الذي أبرزته أزمة انفجار المرفأ بالتداعيات التي حصلت داخل القوى والأحزاب والائتلافات السياسية. فقد أخرجت الأزمة الأخيرة الاستقطاب الداخلي الذي يشهده حزب الله منذ فترة إلى العلن بصورة واضحة على مستويين. أمّا المستوى الأول، فهو جيليٌّ؛ إذ ساعدت الحرب في سورية في صعود جيل جديد من القادة في سُلّم التنظيم، خصوصًا في القطاعات العسكرية والأمنية، في وقت لم تتغير فيه الواجهة السياسية للحزب منذ ثلاثة عقود، بمن فيهم ممثلوه في مجلسَي النواب والوزراء. وقد أدى هذا الأمر إلى بروز ثنائية الجمود في مقابل الحركة، والتضحية في مقابل الرخاء والثراء داخل الهياكل التنظيمية للحزب. وبدا أيضًا أن القادة العسكريين أكثر صلة بالشارع الشيعي من نظرائهم السياسيين، وأنهم يُواجهون أسئلة صعبة عن الفساد ودور التنظيم في حماية الفاسدين من خلال تحالفاته السياسية. وكان من نتائج ذلك إطاحة رئيس لجنة الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا ونائبه المعروف باسم “الحاج ساجد”، وهما عرَّابَا الساحة السياسية. أمّا المستوى الثاني فيتمثّل بانقسام برز في الحزب على مستوى المؤسسات، وهو يتصل بتوزع النفوذ بين القطاعات العسكرية والأمنية والسياسية، ومن بينها المجلسان السياسي والتنفيذي، و”مجلس الشورى” الأكثر نفوذًا. وفي هذا السياق، سوف تغير إطاحة صفا ونائبه، على الأرجح، موازين القوى داخل الحزب. ومن غير الواضح بعدُ كيف ستنعكس هذه التغييرات على اصطفافات الحزب وخياراته السياسية. ينطبق الأمر نفسه على الوضع داخل “التيار الوطني الحر” وبيت الرئيس ميشال عون، ذلك أن تأثر البيئة المسيحية بالتفجير، ترك آثاره في الصراع القائم أصلًا بين صهرَي الرئيس، جبران باسيل الأكثر نفوذًا والوارث المختار لحزبه، وشامل روكز النائب الذي انضم إلى المعارضة. وإلى جانب روكز، هناك ميراي عون المستشارة الخاصة للرئيس وآخرون محسوبون عليها في “التيار الوطني الحر”. ويُحاول هذا الفريق داخل العائلة قلب الموازين لمصلحته، واحتواء نفوذ باسيل الذي أصبح يشكل عبئًا على التيار؛ ما قد ينعكس على التوافقات المحتملة بين الفرقاء السياسيين، مع احتمال تنازل “التيار الوطني الحر” عن وزارات خدمية مهمة مثل وزارة الطاقة (قطاع الكهرباء). إقليميًّا، ودوليًّا أيضًا، فتح انفجار بيروت الباب واسعًا أمام عودة لبنان إلى قلب التنافس الإقليمي والدولي بين القوى الرئيسة في مشهد المنطقة؛ مثل فرنسا، وإيران، والولايات المتحدة، وتركيا، ومصر. وقد تقاطر على بيروت خلال أيام الانفجار الأولى مسؤولون من هذه الدول؛ لإبداء تضامنهم، والدفع باتجاه مسارات سياسية تتفق مع رؤية كل منهم لِمَا يجب أن تكون عليه الحال في لبنان بعد انفجار المرفأ. وبدا واضحًا، خلال هذه التحركات، انعكاس ملفات المنطقة واستقطاباتها على الوضع في لبنان. فقد حظي حراك ماكرون المدفوع بالصراع ضد تركيا في شرق المتوسط بدعم مصر التي زار وزير خارجيتها سامح شكري بيروت، بالتوازي مع تغذية الطرفين المخاوف من نمو الدور التركي في لبنان في حال تَرْك هذا البلد يتخبط في أزماته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وفي المقابل، وجَّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انتقادات شديدة للمبادرة الفرنسية في لبنان باعتبارها محاولةً لإحياء الماضي الاستعماري الفرنسي في شرق البحر المتوسط. وقد يعيد هذا الاستقطاب تشكيل المشهد اللبناني ودوره في التنافس الإقليمي، إذ انصب التركيز خلال السنوات الماضية على إيران، بصفتها القوة الأكثر نفوذًا وتأثيرًا في لبنان بعد خروج الجيش السوري عام 2005. ومع تراجع الدور السعودي في لبنان، يتزايد الحديث عن تشكل حلف فرنسي – إماراتي، يسنده تقاربٌ خفيٌّ لأبوظبي (وباريس والقاهرة أيضًا) مع النظام السوري لمواجهة تركيا في شرق المتوسط. وقد يُمثل هذا الاصطفاف الذي يتشكل، مركز الاستقطاب الإقليمي مستقبلًا في لبنان وخارجه، وهو كفيل بخلق أزمات جديدة على الصعيد الوطني. في كل الأحوال، يبدو لبنان بعد الانفجار الذي هزَّ مرفأ بيروت أمام وضع سياسي جديد. فمن جهة، اتضح عدم قدرة طرف سياسي واحد على الانفراد بحكم البلد، بعد أن سقطت حكومة حسان دياب إثر سبعة أشهر فقط على فرضها من جانب تحالف الرئيس وحزب الله، في تجاهل تامٍّ لمطالب الحركة الاحتجاجية وقوى سياسية معارضة. وقد يدفع هذا الواقع والضغط الدولي ورغبة الأحزاب الطائفية في إنقاذ نفسها إلى تبني فكرة حكومة الوحدة الوطنية. ومن جهة ثانية، لم يعُد هناك مفر من إجراء إصلاحات جذرية لنظام قائم على الزبائنية والمحاصصة الطائفية، وهذا غير ممكن من دون تغيير طريقة الانتخابات. ولن يفعل ذلك برلمان يدعم حكومة وحدة مؤلفة من قوى طائفية. يتطلب الإصلاح المطلوب تقديم تنازلات من جميع الفرقاء السياسيين وإشراك القوى الطائفية؛ لأن البديل سيكون فوضى أمنية، وانهيارًا ماليًّا واقتصاديًّا شاملًا. لقد اتضح أنّ للرأي العام اللبناني وزنًا محليًّا ودوليًّا. وهذا هو الضمان الوحيد لعدم تعزيز الاصطفافات الإقليمية الجديدة لنظام المحاصصة الطائفي في لبنان. لكنّ الأمر يعتمد على قدرته على فرض مطلب واحد أو مطلبين، على الأقل، مثل تغيير طريقة الانتخابات، وفرض الحراك الثوري نفسه طرفًا في أي حوار وطني قادم، وطرح برامج عملية وواقعية قابلة للتطبيق تدريجيًّا بالتوافق؛ للانتقال بلبنان من النظام الطائفي. إذا لم يحصل هذا فإنّ الأزمة الحالية ستعيد إنتاج نظام المحاصصة الطائفي بصيغة “حكومة وحدة وطنية” مرضيّ عنها دوليًّا، وهي في الحقيقة تقاسمٌ طائفيٌّ على نطاق أوسع؛ أي إنها عكس الوحدة الوطنية.
مشاركة :