عُدتُ في نهاية شهر فبراير (شباط) الماضي إلى البحرين، في واحدة من آخر الرحلات إليها قبل صدور قرار اللجنة الوطنية البحرينية المُكلَّفة التعامل مع وباء "كوفيد – 19"، التي يرأسها ولي عهد البحرين الأمير سلمان بن حمد، بإغلاق المطار، وهو إجراء ظننتُ وكثيرون أنه لن يستمر طويلاً، خصوصاً مع اقتراب أشهُر الصيف الحارقة في الخليج، والتي كانت تنعكس في خلو مُدُنها من المواطنين الهاربين إلى مُدُن وجبال وشواطئ العالم. توالَت القرارات بدايةً بإغلاق المدارس والجامعات والمجمَّعات والمطاعم والمقاهي ودور العرض وصالات الرياضة، وغيرها من الأماكن التي يمكن أن يتجمَّع فيها الناس، وهي إجراءات لا تلقى شعبية من قبل الناس الذين اعتادوا حرية السفر والذهاب إلى الأسواق، ولكن الحكومات الحريصة على حياة هؤلاء لم تجد مناصاً من اتخاذها لمنع انتشار الوباء، وبموجبها تم تحديد الفترة الزمنية لتطبيق الأمر، ومرَّةً أخرى كانت التوقعات أن ذلك لن يستمر طويلاً، وأن الحياة لا بد من عودتها إلى حالتها الطبيعية، وخاب الظن ثانيةً. من المؤكد أن كل السلطات التي اتَّخذت هذه القرارات القاسية لم تكُن راغبة في السير بها، إذ كانت تُدرك أولاً، كما ذكرت سابقاً، أنها لن تجد قبولاً سريعاً من الناس، ولكنها لم ترغب بالمُخاطرة لو تركت الأمر لوعي الناس في اتخاذ الاحتياطات الواجبة في مجتمعات لم تتمرَّس على مثل هذه القيود إلا في حالات الحرب، ثم إنها كانت تعلم تبعاتها المالية المباشرة في حال تعطيل قطاعات تجارية كثيرة وأنها ستكلف الخزانة العامة مبالغ ضخمة ستشكل ضغطاً على مُجمل الحركة المالية، لكن عليها في الوقت ذاته مُواجهتها مهما كانت التكلفة، ثم تالياً كانت تفهم أن ذلك سيؤثر على الاقتصاد الشامل وزيادة الأعباء التي لا بد للسلطات أن تتحمَّلها نيابةً عن المواطنين في كل مجال، سواء كانوا في القطاع الخاص الذي يتضرَّر من حالة الشلل الطارئ والضروري، أو كانوا عاملين في القطاعات الحكومية التي لا يمكن تسريح المُواطنين منها. وكانت الأيام الأولى مُملَّةً وجالبةً للإحباط لي ولكثيرين من الذين كان السفر المستمر شرقاً وغرباً يشكل جزءاً من شخصيتهم ونمط حياتهم، إلى حد أن بقاءهم لأيام قليلة في أماكن استقرارهم كان يُثير الاستغراب والتساؤلات، لكن المسألة لم تستغرق طويلاً حتى اعتدنا على الأمر وتأقلمنا معه، وتحوَّل الاهتمام من البحث عن رحلة جديدة إلى كيفية قضاء الوقت في المنزل من دون أن نعلم متى تنتهي الورطة الكونية. وتحوَّلت اللقاءات من المواجهة داخل القاعات والغُرف المُغلقة إلى شاشات الكومبيوتر، وظهرت تقنيات جديدة يتبادل من خلالها المهتمون أفكارهم، لكن في المقابل اختفت المشاعر الإنسانية التي كان اللقاء المباشر يخلقها، ولم يعد التواصل الاجتماعي مُمكناً، وهو الذي كان هدفاً لهذه الاجتماعات والندوات. ظللتُ أتابع أخبار فتح المطارات في المنطقة والوجهات التي صارت مُتاحة، وفي اللحظة التي تأكدت فيها أن السفر صار مُمكناً، وإن بقيود، لم أتردد لحجز مقعد إلى مدريد عبر دبي. وحذَّرني كثيرون من المخاطر، خصوصاً أن إسبانيا ومدريد على وجه التحديد، كانت من أكثر المناطق التي أصابها الوباء، وفتك بالكثيرين فيها، لكني لم أتردد وصمَّمت على خوض غمار هذه التجربة بعد انقطاع عن ممارستها قرابة أربعة أشهر مرَّت بطيئة كئيبة، لكني شعرت بمُتعة واسترخاء عجيبين حين أنهيت ترتيبات السفر كما لو كان الأمر إنجازاً فريداً. كانت اللحظات الأولى داخل مبنى مطار البحرين غريبة، إذ كان خالياً من الركاب على غير العادة في هذا الوقت من السنة. وشعرت كما لو كان الموجودون في صالة الانتظار هابطين من كوكب آخر، فالكل يضع الكمامات، فيشعر المرء معها بحالة توتر خشية الاقتراب من مصدر خطر قادم من المجهول، ولا يرى المسافر إلا أعيُناً تتابعه وتبتعد عنه سريعاً لتصطدم بأعيُن أخرى كل تعبيراتها هي القلق والريبة من المارِّ بجوارها. كان سير الرحلة الأمثل بالنسبة لي للوصول إلى مدريد هو المرور عبر مطار دبي، وهي رحلة اعتدتُ عليها لسنوات طويلة، وكانت فترات الانتظار في الأحول الطبيعية لا تتجاوز أربع ساعات، وفي الواقع لم يكُن أمامي خيارات أخرى على الرغم من أن مدة الانتظار في هذه الرحلة كانت الأطول على الإطلاق في تاريخ سفرياتي، قبل أن أكتشف أن الانتظار في رحلة العودة سيكون أطولَ، فكان مُحتَّماً أن أقضي إحدى عشرة ساعة ذهاباً، و16 ساعة عند العودة. عند صعود الطائرة لم يكن عدد الركاب كبيراً كما كانت طبيعة الرحلات بين البحرين ودبي، وكان أغلبهم من الذين يختارون دبي كنقطة ترانزيت إلى وجهاتهم النهائية. وكان طاقم الطائرة مجهزاً بنظارات شفافة وكمامات تغطي أفواههم وأنوفهم، وهو أمر يزيد من قلق المسافرين؛ إذ إن هذه المظاهر تُفقد المشاعر الإنسانية قيمتها. كانت الرحلة إلى مطار دبي قصيرة وحال الوصول أصابني حزن لما أصاب ذلك المكان من الوحشة والهدوء ونُدرة المسافرين، بعد أن كان قبل أشهر قليلة ساحة مُبهرة ضخمة يتحرك داخلها عشرات الآلاف من المسافرين، فلا يجد العابر موطئ قدم ولا مساحات خالية ولا كراسي فارغة. وإذ بفيروس صغير بدأ رحلته من داخل أسواق مدينة صينية، لم يسمع كثيرون عنها من قبل، يُحيل العالم كله إلى بلدان مُحاصرة يسكنها الخوف والترقب والسكون، وهي التي كانت في الماضي القريب جدّاً تضجُّ بالحركة والحيوية والزوار. قضيتُ الساعات الطويلة في مطار دبي، وانشغلت خلال انتظار الرحلة التالية إلى مدريد، باستكمال كتابة مقالي الأسبوعي في هذه المساحة على موقع "اندبندنت عربية"، وما كدتُ أنتهي حتى كان موعد الرحلة قد حان فتوجَّهتُ إلى البوَّابة المُخصَّصة، وانتهت إجراءات صعود الركاب بسُرعة غير معهودة، لأن عدد المسافرين كان صغيراً، وهو ما أتاح لي فرصة النوم في الكراسي الخلفية للطائرة، التي كانت على الدوام مُزدحمة، ومرَّت ساعات الرحلة السَّبع سريعاً. عند وصولي إلى مطار مدريد لم تعُد مفاجأةً أن أعبُر في مطار آخر خالٍ من الحركة، كان قبل أشهر قليلة يستقبل مئات الآلاف من القادمين يوميّاً، ولم يكن المشهد مختلفاً عن مطاري البحرين ودبي من حيث الالتزام بالإجراءات الصحيَّة المُتَّبعة، وإن بتساهُل أكثر.
مشاركة :