عامود من الدخان الأبيض ثم انفجار برتقالي وسحابة من الدخان الأسود تجتاحه، كان ذلك آخر ما رآه روني مكتّف بعينيه قبل أن يترك انفجار مرفأ بيروت بصمة قاسية على وجهه ووجه مدينته. ويقول الطبيب النفسي (59 عاماً) بينما ما زال جرحه ينزف لوكالة فرانس برس "لقد فقدت الرؤية الجانبية بالكامل أو ربما رؤيتي لنفسي. إذا نظرت إلى نفسي في المرآة، أشعر أنني خسرت ما كنته مع عينين". وتسبّب انفجار المرفأ المروع في 4 آب/أغسطس بمقتل 177 شخصاً وحوّل بيروت مدينة منكوبة بعدما تشرّد نحو 300 ألف من سكانها، عدا عن إصابة أكثر من 6500 شخص، تشوّهت وجوه عدد منهم خصوصاً جراء تساقط الزجاج وتناثره. ويعاني 400 شخص على الأقل من إصابات في العين، تطلبت أكثر من 50 منها تدخلاً جراحياً، وأصيب 15 شخصاً على الأقل بعمى دائم في عين واحدة، وفقاً لبيانات جمعتها المستشفيات الكبرى في بيروت ومحيطها. بعد نحو أسبوعين على الانفجار، يجلس مكتّف في مكتبه على الأريكة المخصصة عادة لمرضاه، ويمسك منديلاً يمسح به ندباً عامودياً يقسم عينه اليمنى. يؤشر بيده إلى جرحه ويقول "هذا هو تأثير الانفجار". عند دوي الانفجار، كان مكتّف يجلس على شرفة منزل صديقه المطل على المرفأ وألقاه عصف الانفجار نحو الباب الأمامي كما لو أنه "ذرة غبار". حتى اللحظة، لا يدرك ما إذا كانت الإصابة في عينه ناتجة عن اصطدامه بالباب أو عن قطعة زجاج طائرة. إلا أنه ينقل عن الأطباء أن ضغط الانفجار نفسه قد يكون أدى إلى تمزق عينه، وهو ما يجعل عملية ترميمها مهمة صعبة. في الساعات اللاحقة للانفجار، تطلب الأمر "سلسلة تدخلات ملائكية" حتى وصل مكتّف إلى سرير غرفة العمليات. ويشرح أن شخصاً لا يعرفه نقله كـ"المجنون" على دراجته النارية التي اخترقت الركام إلى مستشفى مجاور سرعان ما تبيّن أنه خرج من الخدمة جراء الانفجار. ومن حيث لا يدري، أقبلت راهبة نحوه بعدما أخرجت سيارتها وسط الدمار ونقلته إلى مستشفى آخر تبيّن أنه بدوره خرج من الخدمة. ويصف المشهد في تلك اللحظات قائلاً "بدت المدينة بمثابة رؤية من الجحيم"."نصف أعمى" وتمكّن أحد أصدقائه أخيراً من ترتيب موعد لجراحة خضع لها في مستشفى في مدينة صيدا جنوباً. استغرقت العملية ساعتين من دون أن يتمكن الأطباء من إنقاذ عينه. لا ينكر مكتّف أنه "أكثر حظاً من معظم" ضحايا الانفجار، لكن ذلك لا يبدّد مرارة الخسارة، في شعور يجده مماثلاً "لمراحل الحزن الخمسة"، في إشارة الى خمس مراحل نفسية متعارف عليها في تعامل الأفراد مع الموت أو الحزن الكارثي. وتبدأ بالإنكار، ثم الغضب والمساومة، فالاكتئاب وصولاً إلى التقبّل. وتسبب الانفجار بتطاير زجاج النوافذ في قطر يمتد لثمانية كيلومترات على الأقل من المرفأ في العاصمة ومحيطها. ولا تزال الشذرات متناثرة في كل ناحية وصوب حتى بعد نحو أسبوعين من وقوع الانفجار. في مستشفى العين والأذن في منطقة النقاش شمال بيروت، يجري مارون داغر (34 عاماً)، مراجعته الطبية الثالثة منذ وقوع الانفجار. ويقول لفرانس برس إن "انفجار بيروت غيّر كل شيء" بعدما خسر قدرته على الرؤية في إحدى عينيه، وبات القيام بأبسط الأمور مهمة صعبة. حتى أن صبّ القهوة العربية داخل الفناجين الصغيرة بات شبه معجزة من دون سكبها خارجها. وكان مارون يقف مقابل نافذة على بعد شارع واحد من المرفأ حين دوّى الانفجار ودخلت زجاجة بطول سنتيمترين في الجهة العليا من عينه اليسرى. في الأيام القليلة الأولى، اقتصر ألمه على الجانب "الجسدي فقط"، لكنّ الوجع اتخذ منحى آخر عندما جرى إبلاغه بأن نظره قد تضرر على الأرجح بشكل دائم. وباتت صباحاته صعبة منذ ذلك الحين. ويوضح "كنت أحلم أنّه بإمكاني رؤية كل شيء ومن ثم أستيقظ.. نصف أعمى"، ما يتسبّب بتدفق "مشاعر سيئة"."الأكثر أماناً" منذ العام 1995، يقيم عامل البناء السوري مخول الحمد (43 عاماً) في حي مار مخايل في بيروت، حيث كان يظنّه المكان "الأكثر أماناً في لبنان". ولهذا السبب، وبعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مدينته منبج في شمال سوريا، انتقلت عائلته إلى لبنان للإقامة معه. وكانت سما، طفلته الصغرى، تبلغ عاماً واحداً فقط. قبل أسابيع من الانفجار، احتفلت سما بعيد ميلادها السادس. وعند وقوع الفاجعة كانت قرب النافذة التي تطاير زجاجها إلى عينيها. على سطح شقتهم المطلة على مرفأ بيروت، الذي بات أشبه بساحة خردة كبيرة، تحتفظ سما بابتسامة خجولة بينما تغطي ضمادة عينها اليسرى. وجراء الإصابة، تمزّقت شبكية عينها كاملة وفق ما أخبر الأطباء والدها. وتتطلب عملية الترميم تدخلاً جراحياً خارج لبنان، لا تقوى العائلة على تحمل كلفته. ويقول مخول بينما يحضن ابنته التي ارتدت ثوباً زهرياً ووضعت طلاء أظافر من اللون ذاته، بحزن "ليت ما أصاب الناس كلها ألمّ بي ولم يحدث أذى لسما".
مشاركة :