جرى الحديث في وقتنا الحاضر حول ضرورة تجديد الخطاب الديني السائد، وذلك لمواجهة الفكر الإرهابي المتطرف، حيث تستند المنظمات الإرهابية في عملية تجنيد الشباب والتغرير بهم، وتوفير مصادر التمويل واستغلال العاطفة الدينية، وتبرير عملياتها الإجرامية إلى تلك المفاهيم الموجودة في ذلك الخطاب! وقد كان موقف بعض الدعاة ورجال الدين رافضاً لمثل هذه المطالب، إذ يرون أن معنى هذا التجديد هو إلغاء الثوابت الموجودة في الشريعة الإسلامية مثل الجهاد والأمر بالمعروف والولاء والبراء، ومن ثم التلاعب بنصوص الدين وفق الأهواء والمصالح! وعلى هذا الأساس، فإني أتساءل: ماذا يعني تجديد الخطاب الديني؟ ولماذا يرفضه بعض الدعاة والمشايخ؟ وهل بالفعل يهدف هذا التجديد إلى إلغاء الثوابت في الشريعة الإسلامية ومن ثم تمييع الدين؟ وأخيراً، كيف يتم ومن يقوم بتجديد الخطاب الديني؟ بعض رجال الدين يرون أن معنى "تجديد الخطاب الديني" هو تطهير الدين الإسلامي من البدع والخرافات، وبعبارة أخرى، فقد ظهرت في الإسلام بدع وشركيات كثيرة، ويعني التجديد إزاحة هذه البدع والعودة إلى الإسلام الحقيقي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، يقول أحد الدعاة ما نصه: "إن عملية تجديد الدين عملية جهادية من الدرجة الأولى، وهي تغيظ أعداء الإسلام، لما يقوم به المجددون من إحياء الفرائض الغائبة والسنن المغيبة ومحق البدع والخرافات الدخيلة، لا سيما تلك الأفكار الخبيثة التي دسها أعداء الإسلام في عقول العرب وسلوكياتهم وأخلاقهم"، وأصحاب هذه النظرية يستندون في رؤيتهم تلك إلى حديث النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، حيث قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها". فهذا يدل من وجهة نظرهم على أن "الدين المُجدد هو ذلك الذي يعتقده الناس، لا الدين الخالص الذي أنزله الله، ولذلك قال: "يجدد لها دينها" فنسب الدين إلى الأمة، ولم يقل -مثلاً-: يجدد لها الدين أو يجدد لها دين الله! فهدف المجدد هو تجديد الدين الذي يتصوره ويعتقده الناس بحيث يتفق والدين الخالص الذي أنزله الله غضا طريا على نبيه صلى الله عليه وسلم". والمفهوم السابق لتجديد الدين -في رأيي- لا يصلح لمواجهة الفكر الإرهابي، بل على العكس من ذلك فقد تؤدي تلك النظرية إلى بث الكراهية بين الناس، حيث يتم تقسيمهم إلى ثنائية تعسفية "مؤمن وكافر"، كما أن المنظمات الإرهابية تستخدم شعارات من هذا القبيل، مثل تجديد الدين وتصحيح عقائد الشعوب ومحاربة الشرك والبدع والخرافات، والحروب الطائفية أقوى دليل على ذلك، وفي هذا الصدد يقول أحد الدعاة: "لذا كان الإمام أبي داود فقهياً حقاً عندما كتب هذا الحديث في باب يتحدث عن الجهاد ضد رايات الكفر اليهودية والصليبية". أما فيما يتعلق بالحديث الشريف، فإن تفسير تجديد الدين يختلف من عالم إلى آخر ومن فقيه إلى آخر، فالأمر يتعلق بأفهام البشر لمعنى الحديث، وهذا ما نحن بصدده في محاولة فهم تجديد الخطاب الديني، فليس هناك دليل يقيني وقطعي الثبوت ومتفق عليه في أن التجديد يعني محاربة البدع والخرافات. أما المعنى الثاني لتجديد الخطاب الديني، فيرى البعض وجود مشكلات جديدة في العالم الإسلامي، فيكون التجديد عبارة عن "العودة إلى المادة الأولية للإسلام، أي القرآن والسنة، لغرض تشييد بنية فكرية واعتقادية دينية جديدة تتناسب مع التجارب والتصورات التي يعيشها الإنسان المعاصر عن العالم والإنسان والحياة". وعلى هذا الأساس، فإن تجديد الخطاب الديني لا يعني محاربة البدع والخرافات وتصحيح عقائد الناس، وإنما يعني فهم الدين بما يتناسب مع فهم الإنسان المعاصر عن العالم والبشرية، وذلك من خلال تنقيح ونقد الموروث الديني، والبحث عن إجابة لأسئلة الإنسان الحديث من النصوص الدينية، ودراسة ونقد ما طرحه القدماء من أحكام فقهية وفتاوى، وبعبارة أخرى يكون التجديد من خلال التحرّك برؤية جديدة لفهم النصوص الدينية وفق معطيات الحضارة الحديثة. فمن خلال هذه الرؤية الجديدة نستطيع محاربة الفكر الإرهابي وتجفيف منابعه، وأما القول بأن تجديد الخطاب الديني وفقاً لهذا المفهوم يهدف إلى إلغاء الثوابت في الشريعة الإسلامية، فهذا الكلام غير صحيح، بل إن من يلغي الثوابت في الشريعة الإسلامية هم الجماعات الإرهابية مثل داعش وغيرها، من خلال استخدامها مفاهيم مثل "الشرك والكفر" و"دفع الجزية"، و"الخلافة" و"الجهاد"، و"السبي وملك اليمين" و"رجم الزانية" و"قتل المرتد"... فجميع هذه المصطلحات تستخدمها داعش في خطابها الإعلامي معتمدة على المفاهيم التقليدية القديمة لمعانيها، الأمر الذي شوه صورة الإسلام في الداخل والخارج وفي كل مكان! إن غربلة ونقد التفسيرات القديمة للنصوص الدينية لا يقصد بهما محاولة هدم الإسلام، كما يتصور ذلك رجال الدين، بل المقصود من ذلك الكشف عن الإيجابيات والسلبيات في تلك التفسيرات والتي هي عبارة عن مناهج بشرية معرضة للصواب والخطأ، ومن هنا نستطيع إضعاف فكر الجماعات الإرهابية التي تستغل تفسيرات الدين القديمة في هدم جوهر الدين والتدين في جو المجتمعات الإسلامية. كما أن ما يطرحه العلماء والفقهاء والدعاة باسم الدين في المجتمع هو معرفة بشرية بحتة فهم بشر يفهمون نصوص القرآن الكريم والأحاديث الشريفة بمعايير وفكر بشري بحت وآراؤهم ليست مقدسة وليست معصومة من الخطأ.. فما المانع إذا من نقد وتجديد الخطاب الديني؟
مشاركة :