... ولكن التعب والألم لا يدومان طويلاً في فسح الرمال وسكينة النفود، فبعد أن نصبنا الخيمة شببنا النار وتقهونا، تهافتت حسنات المكان عليّ. فملكني من السرور ما كان قد هجرني راكبًا، ورحت أتغنى بمدح أرض يحلو هواؤها، يحلو شكلها وفسحاتها، ويحلو لونها وسكونها. يحلو وطؤها، تحلو مجسَّتها. وبعد العشاء تبارينا برمي الجريد، وتسابقنا حفاة في العدو، ووقف ماجد على يديه ليبرهن لرجحان أن رجليه أعلى من رأسه (أي رأس رجحان)، وأنه مستقيم وإن كان ابدُوي – بدويًا – كيفما وقف أو مشى، وأنه قوي يغلبه بكل شيء: بالصراع، بالعدو، بالقنص، بالركوب، وبالـ... أوقفناهما عند هذا الحد في المفاخرة، فاستعاضوا عنها بالغناء و«اللعب»؛ أي الرقص. دخلت الخيمة والخدم لا يزالون في السمر. فاستلقيت على السرير وأنا في بهجة من حقَّقت الأيام حلمًا من أحلامه. فها هي الصحراء، وهو ذا الهجين، وها أنا ذا جار لأمير من أمراء العرب، لسلطان نجد. ما كاد هذا الحلم الذهبي يغمض جفني حتى سمعت صوتًا يسأل: مَن الربع؟ ثم أناخ عند نارنا رجلان عرفهما السيد هاشم، رجلان من رجال السلطان، جاءا ينبئاننا بأن رسولنا وصل. وأن سموه – نهض السيد هاشم مدهوشًا وبادر إليّ يقول: قم يا أستاذ، قم حالاً. السلطان قادم إلينا. نهضت مسرعًا فارتديت ثيابي – وما أحسن الثياب العربية خصوصًا في مثل هذه الحال. حسبك عباءة تغطي بها قميص النوم، ثم كوفية وعقال، ثم – حي الله الجاي، مرحبا بالضيف. راح الرَبع يجمعون الحطب للنار. وفرشنا أنا والسيد هاشم البيت! مددنا السجادة ثم وضعنا الكور في الصدر مسندًا على عادة العرب – وهذا كل ما هنالك تأهبًا لاستقبال مليك من ملوك العرب. وكان الليل صافي الجبين، رقيق الجلباب، شأنه في البادية. تدنو النجوم في سمائه من الأرض بريقًا، وتُسمع فيه الأصوات، كأنها على طول المسافات، الأبواق في الغابات، لها دوي لطيف ينجد ويغور وصدى يتموج كالنور، وما أرهب وما أجمل صوتًا سمعناه آنئذٍ وراء الآكام في مروج الليل ينادي: «يا سُعَيِّد يَسعايِّد»! مبشرًا بقدوم السلطان، أو بمروره في ذاك المكان، إن المنادي ليتقدم الموكب السلطاني حتى إذا سمعه أحد من البادية أو الحضر يروم من سيد البلاد أمرًا، أو يحمل إليه شكاية، أو يبغي الركوب في موكبه، فهو يقصد مسرعًا إلى مكان الصوت فيفوز ببغيته؛ يا سُعيِّد – يَسعايِّد! (البقية غدًا). إلى اللقاء..
مشاركة :