باريس ـ حثّت الأكاديمية السعودية هند بنت مسفر علي الشهراني، الكليَّات الصحيَّة في المملكة لاعتماد سياسة لغوية واضحة حيال الواقع اللغوي فيها، يُلزم باستعمال اللغة العربية في عرض المحتوى العلمي؛ تعزيزا للدور العلمي للغة الأم. كما دعت وزارة الصحة لتطبيق شرط إجادة العربية التواصلية على كل راغب بالعمل في المجال الصحي من الممارسين الطبيين من غير العرب. وأوصت الباحثة، في رسالتها التي نالت بها درجة الماجستير في علم اللُّغة التَّطبيقي، بعنوان "اتجاهات أعضاء هيئة التدريس في كليات الطب السعودية نحو تعليم الطب باللغة العربية"، بأن تهتم الكليَّات الصحية بإقامة دورات في التحرير العربي للطلبة وأعضاء هيئة التدريس فيها، إضافة لعقد الورش والمحاضرات والندوات في الكليَّات العلمية حول وضع اللغة العربية في التعليم، بهدف إثارة القضية والاستماع إلى الحجج المُضادة من المُهتمين في هذه الكليات، وبحث سبل التعاون مع المؤيدين. واقترحت الشهراني، تنظيم تجربة في تعليم الطب باللغة العربية على دفعة كاملة من الطلبة، على أن يكونوا راغبين في العمل أطباء مهنيين بعد التخرج، إضافة للبحث في انعكاسات السياسة اللغوية في الكليات الصحية على الواقع.كما دعت لإعداد دراسة جدوى حول ترجمة المراجع الطبية، وأن يبذل الباحثون والمراكز المتخصصة في أبحاث اللغة العربية، موضوعَ اللغة والتعليم أولويةً خاصَّة. بحيث يتم توجيه الباحثين الجادين والمجموعات البحثية إلى البحث في المجال بهدف تحديد المشكلات أولا، وتقديرها بشكل صحيح. والشهراني، محاضرة بمعهد اللغة العربية للناطقين بغيرها بجامعة الملك عبدالعزيز، وهي مهتمة بالشأن اللغوي القومي على وجه الخصوص والدولي بشكل عام. وتقول إنها تجد في اللغة القومية الهوية، وفي اللغات العالمية الإنسان، فهما برأيها كلٌ لا ينفصل مادامت اللغات شأنًا إنسانيًا خاصاً. ورجّحت الباحثة، في استعراضها لسبب الاتجاهات الإيجابية نحو سلوك اعتماد الكليات الطبية على لغة أجنبية أنه عائد إلى المزاوجة والاقتران الذي حصل بين الإنجليزية وكل ما هو علمي متقدم. فقد حدث اقتران بين الإنجليزية والمؤتمرات العلمية، والمجلات العلمية المصنَّفة، والمؤلفات العلمية الرائدة، وهو ما يتفق مع تصوّر "الاشتراط الكلاسيكي" لبافلوف. ولاحظت أن طول الممارسة للإنجليزية من أجل تحقيق غايات علمية قد قلل من فرصة تبني اتجاه إيجابي نحو اللغة العربية، مُشيرة إلى أنّ بعض من يتبنون اتجاها سالبا نحو استعمال اللغة العربية في تعليم الطب، إنما يتبنونه بسبب رغبتهم في الانسجام مع المجتمع العلمي خاصة. واعتبرت أنّ، من شأن السياسة اللغوية أن تغير الاتجاهات السلبية نحو استعمال لغة الضّاد في تعليم الطب، وذلك بسبب قوة المصدر وهو أحد أهم أسباب تغيير الاتجاه حسب نظرية التطابق المعرفي وهي أحد أهم نظريات تغيير الاتجاهات والتأثير فيها. كما خلصت نتائج الدراسة إلى أنّ الاتجاه نحو اللغة لا يكون مُحايداً، ومن هنا فإن تبني اتجاها سلبيا نحو استعمال اللغة الوطنيَّة في التعليم سبب في ظهور الطبقية الاجتماعية بين النخبة المثقفة التي تجيد الإنجليزية وبين باقي أفراد المجتمع ممن لا يجيدون إلا اللغة الوطنية بوصفها لغتهم الأم، والتي لا تستعمل لأغراض التعليم في مؤسسات التعليم العالي للتخصصات الطبية. ويؤكد أفراد عينة الدراسة جميعهم بلا استثناء بأنّ الأطباء السعوديين يتفوقون على أقرانهم من الفرنسيين والألمان في الحديث بالإنجليزية في المحافل العلمية، إلا أن إجادة الأطباء السعوديين جاءت على حساب اللغة الأم؛ حيث تم استبدال اللغة الأم باللغة الأجنبية في المجال الطبي تماما. ولا تستغني الكليات الطبية "موضوع الدراسة" عن استعمال اللغة العربية في التعليم الطبي، بل إن الاستغناء عنها - حسب أفراد العينة - تقريبا مستحيل، والسبب في ذلك أنها تقوم بوظيفة تمثيل المعرفة بطريقة أقوى في ذهن المتعلم بوصفها لغته الأم. وتشير نتائج الدراسة إلى أن قضية "الترجمة والدور المنوط بها" قضية جدليَّة. فمنهم من يرى بأنها حجر أساس لمشروع تعليم الطب باللغة العربية، وما نحتاج إليه من إجراءات أخرى - بعد الترجمة - هي إجراءات شكليَّة، بينما يرى البعض الآخر بأن مسألة الترجمة – نفسها - مسألة شكليَّة. وترجِّح الباحثة أن سبب اعتماد الكليات الطبية على اللغة الإنجليزية في التعليم هو سبب تاريخي، ويتمثل في أن الطاقم الأول للكليات الطبية في البلاد هو طاقم أجنبي. وتشير النتيجة السابقة إلى أن أفراد العينة لا يملكون معرفةً طبية باللغة العربية، وقد أشاروا إلى الأثر الذي يؤكد هذا الأمر، حيث إنهم يواجهون صعوبات في التعامل مع المرضى أو عند المشاركة في الأيام التوعوية والحاجة إلى مخاطبة المجتمع. ويتضح من خلال النتائج المعروضة أن أبرز اتجاهات أعضاء هيئة التدريس نحو مكانة لغة الضّاد تتمثل في رؤيتهم بأنّ اللغة العربية هي لغة الحضارة لعدة قرون من التاريخ الإنساني، وتفسير النتيجة أن هذا الاتجاه تابع لاتجاههم العاطفي نحو اللغة العربية لارتباطها بالتاريخ القومي العريق، ويؤكد هذا الاتجاه الذي يقوم على أساس موضوعي اتجاههم المحايد نحو عبارة "استبعاد اللغة العربية من تعليم الطب يؤثر سلبا على مكانتها"؛ فهم يرون أن مكانة اللغة العربية قد تحققت لها في الماضي وبالتالي فإن هذه المكانة لها صفة الثبات، ولن يؤثر عليها سلوك استبعادها من تعليم الطب. كما يبدو ملموساً أنّ أبرز اتجاهات أعضاء هيئة التدريس نحو مكانة اللغة العربية تتمثل في رؤيتهم أن اللغة العربية واحدة من أهم اللغات البشرية، وتفسير النتيجة أن هذا الميل تابع لميلهم العاطفي بسبب كونها لغة الهُوية الدينيَّة والثقافية، فنجد أن اتجاهاتهم نحو مكانة اللغة تكشف عن اتجاهات تقديس وتوقير للغة أكثر من كونها اتجاهات موضوعية. ويرى بعض أفراد عينة الدراسة، أن اللغة العربية بشكلها الراهن غير قادرة على التعبير عن كل ما يستجد في المجال الطبي من تنظيرات ونتائج علميَّة، بينما أفاد البعض الآخر بأن اللغة العربية جاهزة - تماما - لنقل المحتوى العلمي الحالي، وما يستجد فيه من حقائق ووجهات نظر. ولا يرغب العديد من الذين تمّ استطلاع آرائهم، بأن ينفوا عن اللغة العربية صفة القِدَم؛ لأنهم يعتبرونها ميزةً في اللغة العربية، ودللوا على عدم عجزها عن نقل المحتوى العلمي الطبي بالتجربة السوريَّة التي تمكنت من استعمال اللغة العربية في ترجمة المحتوى الطبي وتعليمه. وتعتقد الباحثة أن التجربة السورية ليست ناجحة بصفة مطلقة كما أنها لم تفشل، وأنه يجب دراستها لتحديد الإجراءات الصحيحة واستبعاد الخاطئة واستحداث مكانها إجراءات أخرى صحيحة تتناسب مع طموح البلاد في تمكين العربية وكفاءة المتخصصين في المجالين: علم اللغويات بفرعيه النظري والتطبيقي، والطب.
مشاركة :