«الرسام»: هوّة بين الطموح والواقع ...لسدّ الفجوة بين الفن والمجتمع

  • 7/24/2015
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

لا يمكن أن يكون الحديث عن مبدأ الفن للفن إلا واحداً من المبررات التي تساق لتفسير السبب الذي يجعل الجمهور يبتعد عن نوعية ما من الفنون، أو نمط إنتاجي معين. إذ في هذا السياق يمكن لبعض صُناع السينما أن يتفننوا في الحديث عن «جهل المشاهد»+، ورغبة الجمهور في مشاهدة الفن الهابط كما يصطلح عليه. والحقيقة أن هذا يجعلنا نشعر أننا في حاجة إلى الوقوف والتأمل في المبدأ نفسه. ولعل الفكرة الأولى المطروحة هنا هي أن المشاهد لا يرغب في أن يُرهق نفسه. فهو يكون قد استعد عادة للمشاهدة مسلحاً برغبة في الاستمتاع، وحين لا يتحقق هدفه فإنه ينصرف لنوعية أخرى، ما يعني أن في ذلك جزءاً رئيسياً من أسباب ابتعاد كثير من المشاهدين عن غالبية أفلام السينما المستقلة. ونعرف في هذا السياق نفسه أن في السينما الروائية يلعب السيناريو الدور الأكبر والأهم، حيث تكون الدراما محور الفيلم وروحه، فيما يؤكد باقي العناصر من موسيقى وتصوير وتمثيل على نجاح الفيلم ووصوله إلى الجمهور. فيلم «الرسام» هو أحد الأفلام المستقلة، وهو أُنتج قبل عامين من إخراج سامح فهمي، وكتب القصة سيد الحسيني وشارك الحسيني في إعداد السيناريو محمد السمان وهو نفسه مونتير الفيلم، وقام بالتصوير موني محمود. والفيلم من نوعية الأفلام الروائية القصيرة حيث إن زمن عرضه لا يزيد عن الخمس عشرة دقيقة بعدة ثوانٍ. ويقدم الفيلم قصة بسيطة جداً، تتحدث عن رسام يعاني من ضغوط مادية ويقف في معاناة بين أن يبيع لوحات والده أو يبيع مرسمه. هذا الملخص الذي سيكون متوفراً مع نسخ الفيلم المتاحة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، هو ملخص موجز وفي الوقت ذاته غير دقيق. الرسام الذي نراه في بداية الفيلم يعاني من اضطرابات في النطق، (ليس لدينا أي مبرر درامي لنفهمها ونفهم دورها في السياق). ثم تزوره حياة وهي فتاة سنعرف فيما بعد أنها أيضاً رسامة، وهي تتحدث عن رغبتها في بيع المرسم. بيد أننا لا نعرف أبداً ما هي علاقتها بمنير الرسام، لماذا تمتلك هي حق بيع المرسم؟ مهما يكن من أمر فإنها حتى ولو قدمت عبر الحوار مبرراً لهذا فإن المبرر سيبدو غير متسق. وذلك بالتحديد لأننا نعرف أن والد الرسام كان قد أوصاها بالمحافظة على المرسم لا ببيعه! إثر ذلك نتعرف على شخصية حماصة الذي يُتاجر في اللوحات، ونلاحظ أنه يستخدم في حديثه المفردات الدارجة في المجتمع والتي تحمل إشارات الفهلوة (لوز اللوز، يا برنس...)، لكننا نسمعه يتحدث في الفن حديث التاجر العارف وهو يسعى لحث الرسام على بيع لوحة لا نعرف ما قيمتها، ولماذا يسعى شخص لذلك؟ وفي الدقائق الأخيرة يقرر منير بيع اللوحة، فيما نلاحظ نحن هنا عند هذا المستوى من مسار الفيلم أن الاضطرابات في النطق تختفي تماماً عند الرسام، وهو أمر غير مبرر أيضاً على الإطلاق. بل الأدهى من هذا أن منير يتصرف ويتكلم هنا وكأنه قد حقّق انتصاراً، إذ يكشف أنه باع لوحته هو على اعتبار أنها إحدى لوحات أبيه، إذاً هو استطاع أن يغش وانتصر في معركته. من الواضح في خضمّ هذا كله أن صُناع الفيلم يسعون إلى خلق حالة من الخيالات التي يعيشها البطل، وكأنها عالم مواز يهرب إليه، لكنها حالة لا تُتضح ولا تُستكمل، فاللعب بفكرة الظل لا يتم الاستفادة منه لمصلحة الفيلم، كذلك هذا العالم الموازي الذي لم نره كثيراً في الفيلم يعجز عن خلق إضافة درامية، ولا يصنع تشويقاً أو تصعيداً درامياً داخل الحدث. مهما يكن من المؤكد أن الفيلم يقدم نمطاً من التجارب التي يُقبل عليها اليوم صنّاع الأفلام من الشباب، حيث الأفلام منخفضة التكاليف، لتحقيق طموحات فردية في إنجاز أعمال يتم عرضها والمشاركة بها في مهرجانات، وهو أمر يستحق كثيراً من التشجيع. فلولا التجارب الصغيرة ما تطورت صناعة السينما. لكن الإشكالية الحقيقية تكمن في طريقة تنفيذ هذا الطموح، الذي لا يعترض عليه أحد، فإذا تحدثنا عن صناعة فيلم روائي قصير، لا بد أن التحدث هو عن السيناريو. فسيناريو فيلم الرسام يحمل العديد من الفجوات التي تصنع من الفيلم حالة من التعتيم وعدم الوضوح، كذلك فإن الشخصيات لم تُرسم بعناية، ناهيك بأن التصاعد الدرامي للأحداث لا يمتلك المبررات الدرامية الكافية. فعلى سبيل المثال إذا كان الرسام يُعاني من اضطرابات في النطق والكلام وهو أمر وارد وعادي، حتى ولو لم يكن هناك أي تاريخ للشخصية، أين ذهـب هذا الارتباك في آخر الفيلم؟ تحكي حياة أن والد الرسام ترك لها المرسم إرثاً كي تحافظ عليه، فمن هي حياة وما هي علاقتها بالرسام، وإذا كان المرسم لديها أمانة لتحافظ عليه، فلماذا تُفكر في بيعه وهي لا تملكه فعليًا؟ وما هذا سوى نزر من العديد من التساؤلات التي تتركها الفجوات الدرامية في السيناريو وبناء الشخصيات، تلك التساؤلات التي تترك المشاهد بخارج فعل المشاهدة لهذا النمط من الأفلام. فالإغراق في الرمزية ليس مرادفًا للفن الجيد بأي حال. صحيح أن مقدمة الفيلم تكشف عن رغبة المخرج في تجريب بعض الطموح في الصورة، حيث لعب لبعض الوقت على استخدام ظل الشخصية، ساعيًا لخلق حالة من التوتر والتصاعد في بداية الفيلم، لكن هذه الرغبة تبدو بعيدة عن الاكتمال لأكثر من عامل كان أهمها الموسيقى غير الملائمة والتي أهدرت هذه الحالة من التوتر، إضافة إلى أن استخدام الظل مع القطع السريع على شاشة سوداء كان يمكن أن يصنع جزءاً من هذا التوتر، لكن الموسيقى التي اعتمدت على آلة إيقاعية وأخرى وترية شتتت هذا التوتر تماماً. في مقابل هذا، جاء تكوين المشاهد جيداً إلى حد كبير، كما أن الإضاءة جاءت مناسبة في أجزاء عديدة، لكن الفيلم لا يمكن التعامل فيه مع كل عنصر على حدة، فهو عبارة عن مجموعة من العناصر المكملة لبعضها البعض، وبالتالي فإن المُشاهد لا يمكنه الاستمتاع بجودة الصورة، ما دامت لديه مشكلة مع الحبكة الدرامية، وخاصة مع الشخصيات.

مشاركة :