هذا المقال ليس تعقيباً، أو تعليقاً، على نشر مذكرات رئيس وزراء الأردن الأسبق مضر بدران، وما تضمنته من معلومات واستنتاجات، تذكرنا ببعض فصول مذكرات الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية عمرو موسى «كتابيه» ومذكرات باراك أوباما «أحلام من والدي» ومذكرات بيل كلينتون «حياتي»، ومذكرات رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير «رحلة».لقد طغت في مذكرات هؤلاء السادة السخرية المباشرة أو غير المباشرة. وأقصد بغير المباشرة أن القارئ يعرف الحقيقة المعاكسة، فيتقبل ما قرأ بابتسامة ذات مغزى.على أي حال، هذا الحديث ليس عن السخرية في المذكرات، لكنه عن السخرية في الحروب. في العام الثاني للحرب العراقية الإيرانية التي استمرت 8 سنوات، كنت أكتب عموداً ساخراً بين يوم وآخر في صحيفة «الجمهورية» البغدادية. وفي أحد الأيام اتصل بي ديوان رئاسة الجمهورية وطلب مني المتحدث أن أذهب صباح اليوم التالي إلى تشريفات الرئاسة. وفعلاً ذهبت ووجدت اسمي بين أسماء أكثر من 20 شخصاً لمقابلة الرئيس صدام حسين. وكنت آخر من قابلهم في ذلك الصباح، فاستقبلني بضحكة مسموعة، وهو يمد يده للمصافحة قائلاً: «أعجبني مقالك الساخر أمس عن خميني الدجال». شكرته فقاطعني قائلاً: «أنا الذي أشكرك، فالمقالات الساخرة يتقبلها القراء أكثر من المقالات الجادة في ظروف الحروب والأزمات، لأنها تخفف من التوتر العام، وتوازن قدر الإمكان بين مصاعب الحرب ومطالب الحياة».لن أكتفي برأي الرئيس الراحل صدام حسين في الكتابة الساخرة خلال ظروف الحرب. فهذه نماذج أخرى فيها من السخرية قدر ما فيها من الجدية. يقول الكاتب الإنجليزي جورج أورويل المولود في الهند: «الهدف من وراء كل حرب أن تصبح الدولة في وضعية أفضل لشنّ حرب أخرى». ولجورج أورويل قول آخر أكثر أهمية: «كل دعاية الحرب والصراخ والكذب والكراهية تصدر عمن لا يحاربون». لكن أورويل داعية السلام يرى أن «أسرع طريقة لإنهاء الحرب هي أن تخسرها»!ويقول المثل الإيطالي: «نُعلن الحرب عندما نريد، وننهيها عندما نستطيع». وعن التناقض في السياسة الأميركية، قال الرئيس الأميركي جيمي كارتر: «لا يمكننا أن نكون رواد العالم في السلام ورواد العالم في توريد أسلحة الحرب معاً».الإسبان لهم مثل ساخر رائع: «الحرب كاللوحة جمالها عن بعد». ولذلك تبهرنا أفلام الحروب، من «ذهب مع الريح» إلى سلسلة طويلة من الأفلام الذهبية «إنقاذ الجندي رايان»، و«ميناء بيرل هاربر» الذي أدى إلى اندفاع الولايات المتحدة إلى ضرب اليابان بقنبلتين ذريتين. و«جسر على نهر كواي» و«مدفع الحرية» و«تورا تورا تورا!» و«كازابلانكا» و«ستالينغراد» و«العدو على الأبواب» وغيرها.وأعود إلى الأقوال والأمثال عن الحرب، فهذا قول مأثور للثائر الفرنسي جان جاك روسو: «أعطني عدداً قليلاً من الشرفاء وأنا أحطم جيشاً من اللصوص»، وهو مثل مهم لنا في العراق الحالي. وللسياسي أوتو فون بسمارك قول مأثور: «يكثر الكذب عادة قبل الانتخابات وخلال الحرب». وبسمارك هو صاحب لقب موحد ألمانيا، قبل أن تنشق مرة أخرى إلى ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية التي أطلقت على نفسها تسمية ألمانيا الديمقراطية. وتحضرني في هذه الإشارة حكاية طريفة في السنوات الأولى لثورة 17 يوليو (تموز) 1968 في العراق التي عاد فيها حزب البعث إلى السلطة بعد تنحية الرئيس الأسبق الراحل عبد الرحمن عارف، إذ لم يكن النظام الجديد قد حقق بعد أي إنجاز كبير. لذلك كان المسؤولون يفتخرون في الخطابات وافتتاحيات الصحف بأن العراق أول دولة تعترف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية!ومن زمان لفت اهتمامنا المؤرخ اليوناني هيرودوس في القرن السبعين قبل الميلاد إلى أن «الأبناء في أوقات السلام يدفنون الآباء... وفي الحروب الآباء يدفنون الأبناء»!ومن سوق الشعر في وطننا الكبير، نقرأ لنزار قباني: «ما الذي تخشاه إسرائيل من ابن المقفع؟ وجرير والفرزدق؟ ومن الخنساء، تُلقى شِعرها عند باب المقبرة؟ ما الذي تخشاه إسرائيل من حرق الإطارات وتوقيع البيانات وتحطيم المتاجر؟ وهي تدري أننا لم نكن يوماً ملوك الحرب، بل كنا ملوك الثرثرة». ولنزار قباني أيضاً: «إذا خسرنا الحرب لا غرابة، لأننا ندخلها بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة، ولأننا ندخلها بمنطق الطبلة والربابة».أما صاحب النظرية النسبية ألبرت آينشتاين فلا يعلم بأي سلاح سيحاربون في الحرب العالمية الثالثة، لكنه يتوقع أن يكون سلاح الحرب الرابعة، العصي والحجارة.هل تتذكرون الإيطالي زعيم عصابة آل كابوني في شيكاغو؟ لقد وقف في المحكمة يدافع عن نفسه، قائلاً لقد تم اتهامي بارتكاب كل حالة قتل عدا قائمة ضحايا الحرب العالمية!لجأ اليابانيون في الحرب العالمية الأولى إلى حرب دعائية ساخرة وكوميدية لاستمالة قلوب الجنود البريطانيين والهنود. استخدم اليابانيون منشورات يابانية مستوحاة من فن المانجا الهزلي الذي ينافس فن الكوميكس الأميركي في القصص المرسومة بالأسود والأبيض أو بالألوان. وفن المانجا أقدم من الكوميكس، ويعود تاريخه إلى بدايات القرن الثاني عشر. أما الهنود فاستعانوا بالرسوم الكاريكاتيرية الساخرة لرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، والزعيم الصيني في حينه شيانغ كاي شيك.في عام 2014، أقيم معرض فني في بريطانيا تحت عنوان «الصمود في الحرب... الحزن والبسالة والفكاهة». وضمّ المعرض رسوماً كاريكاتيرية عبّرت عن توظيف الجنود في خنادقهم السخرية من خلال رسوم كاريكاتيرية استهدفت بهذا السلاح ليس الأعداء فقط، وإنما بعض ضباطهم وزملائهم... ومطبخهم أيضاً.ومن حكايات الحرب العالمية الثانية، التي يحتفل العالم في هذا العام بمرور 75 عاماً على نهايتها، قصة غريبة، فيها من السخرية قدر ما فيها من السحر، بطل الحكاية عرّاف بولندي اسمه فولف ميسينغ وقد ارتبط بالاتحاد السوفياتي في تلك الحرب بين عامي 1941 و1945. واشتهر رسمياً وشعبياً، حتى إن الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين استدعاه في عزّ الحرب واختبر قدراته الخارقة، وخرج باقتناع أن جميع تنبؤات العرّاف كانت في صالح موسكو. وذكر الساحر في كتابه «عن نفسي بنفسي» أنه استطاع تحديد موعد انتهاء الحرب قبل عامين من توقفها في 8 مايو (أيار) من دون ذكر السنة. وفعلاً انتهت الحرب في 9 مايو، بتأخير 24 ساعة فقط. وفي موقف آخر، طلب منه ستالين أن يسحب من البنك الرسمي للدولة بورقة عادية مبلغ 100 ألف روبل، وهو مبلغ كبير في ذلك الحين. فذهب إلى البنك برفقة شهود أرسلهم ستالين معه، وقدّم إلى الصراف ورقة بيضاء، ثم فتح حقيبته، فعدّ الصراف 100 ألف روبل ووضعها في الحقيبة! وبعد انتهاء الحرب، قال ستالين إن الساحر الخارق استطاع المساهمة في رفع معنويات شعوب الاتحاد السوفياتي خلال الحرب.هل لديّ أقوال أخرى؟ نعم. يقول تشرشل: «عصب الحرب هو المال» و«الإجابة الوحيدة على الهزيمة هي الانتصار» و«التاريخ يكتبه المنتصرون» و«نفوذ الدول يُقاس بمسافة نيران مدافعها».شاعت في تلك السنوات العصيبة مقولة لا يُعرف صاحبها، وهي «السخرية سلاح من لا سلاح له في زمن الحرب». وهي خلاصة تجربة دامية انتقلت من زمن الحرب إلى زمن السلام.
مشاركة :