يصل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى الخرطوم الثلاثاء، في زيارة رسمية للسودان يجري خلالها مباحثات مع رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان ورئيس الوزراء عبدالله حمدوك، وتمهد الزيارة حسب متابعين إلى تطبيع مرتقب بين الخرطوم وإسرائيل من شأنه أن يفتح الكثير من الأبواب المغلقة خاصة على صعيد اقتصادي، فيما سيستغل خصوم السلطة من القوى الإسلامية الموالية للنظام السابق، في تصفية الحسابات وتأجيج الشارع ضدها. تتشابك المشكلات والتحديات التي تواجه السودان، بما يجعل من أي تطور ملموس على المستوى الداخلي ينعكس إيجابيا على الصعيد الخارجي، وكل تراجع في الأول ربما يقود إلى اهتزاز في الثاني، والعكس صحيح، فقد أصبحت السلطة الانتقالية رهينة هذه المعادلة الثنائية وإفرازاتها، وتبحث عن أدوات مختلفة لتجاوز مطباتها السياسية، فاحتدام الأزمات يجبر الخرطوم على خيارات لم تخطر على بال. وربطت دوائر سياسية بين زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو للخرطوم الثلاثاء، وبين ملف التطبيع مع إسرائيل الذي انفتح على مصراعيه عقب لقاء الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في عنتيبي بأوغندا، في فبراير الماضي، لأن جولة بومبيو الحالية للمنطقة تضع ملف التطبيع على رأس أولوياتها، وتروج له كقضية تحمل مضامين بعيدة. جرى الربط أيضا بين ملف التطبيع ورفع اسم السودان من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، والذي طال انتظاره، حيث تلقت الخرطوم إشارات ووعودا كثيرة من واشنطن، أفادت باقتراب هذه الخطوة، غير أن تأخرها عزز التكهنات التي راجت بشأن علاقتها الوثيقة بحدوث نقلة نوعية في مسألة التطبيع. ومع أن السلطة السودانية، بشقيها العسكري والمدني، رحبت برفع مستوى العلاقات مع إسرائيل بعد لقاء البرهان- نتنياهو، غير أن ردود فعل القوى السياسية لم تكن منسجمة مع التقدير الرسمي، ففئة قليلة رحبت، وأخرى تحفظت، وثالثة رفضت، ولكل من الجهات الثلاث تقديرات متباينة، وخطابات متصادمة حولت القضية من فرصة أو تكتيك للحصول على مزايا، إلى نافذة جديدة للتجاذبات وتصفية الحسابات. جدل التطبيع من رحبوا في السلطة والقوى القريبة منها، انطلقوا من رحم ضرورة الإقدام على خطوة كبيرة لكسر هذه النوعية من المحرمات (التابوهات)، والتي دار في فلكها السودان طويلا دون أن يجني مكاسب ولو معنوية، وتحول الملف إلى متاجرة في يد قوى إسلاموية حكمت البلاد لنحو ثلاثة عقود، وحان أوان التفات الخرطوم لمصالحها مباشرة، فالعلاقات مع إسرائيل يُعتقد أنها تفتح الكثير من الأبواب المغلقة. تأتي قيمة خطوة مثل هذه، من أهميتها في الإيحاء بأن البلاد أصبحت أكثر أمنا وهدوءا واستقرارا، فالتأخير الأميركي لرفع اسم السودان جزء أساسي منه له علاقة بوجود تحفظات على الأوضاع العامة في البلاد، وتأخر التقدم في تحقيق السلام الشامل، وتهديدات النظام السابق، واستمرار شبح القوى المتطرفة التي تنشط في مناطق الهامش، ولم تفقد أملها في الانقضاض على السلطة، أو تهديدها بشكل كبير. وبصرف النظر عن الثمن الذي سيدفعه السودان مقابل التطبيع، فقد يكون بخسا مقارنة بالفوائد التي سوف يتحصل عليها من رفع اسمه من قائمة الإرهاب، حيث يفتح الطريق لمزيد من الاستثمارات الأجنبية في البلاد، وعلاج أوجه خلل وتشوه الاقتصاد. تعد المشكلات الاقتصادية أحد المرتكزات الرئيسية للخروج من النفق المظلم، بعد ازدياد الانتقادات الموجهة للسلطة، وما يمكن أن تنطوي عليه من تطور نحو احتجاجات تفقدها هيبتها في الشارع، إذا لم تتبن خطابا سياسيا مقنعا. في ظل الهوة الراهنة بين قوى السلطة وقوى الثورة، يمكن أن تُفتح جراح عديدة، تستغل ملف التطبيع، الذي أصبح الشغل الشاغل لقوى كثيرة، من ناحية ما يحمله من وعود في مستقبل أفضل، أو ما يشي به من أزمات، ربما تزيد الأمور اشتعالا. بصرف النظر عن الثمن الذي سيدفعه السودان مقابل التطبيع، فقد يكون بخسا مقارنة بالفوائد التي سيجنيها مِن رفع اسمه من قائمة الإرهاب انطلقت مبررات من تحفظوا على خطوة التطبيع والتشكيك في ربطها بتحسن أحوال السودان، من عدم الثقة في هذا المردود، فواشنطن تحتاج لتؤكد للعالم أنها حققت نصرا لإسرائيل بلا حرب، وتل أبيب تسعى لتعزيز مكانتها في المنطقة، وعندما تتطور علاقتها بالخرطوم سوف تتخطى بعض الحواجز التي حالت دون استكمال اختراقها في أفريقيا، والخوف ألا يحصل السودان على ما كان ينتظره من ثمار. يعتقد فريق المتحفظين، أو جماعة نعم ولكن، أن الثمن المنتظر الحصول عليه قد يكون ضئيلا، لأن رفع اسم السودان قادم لا محالة، ولا توجد دواع عاجلة لتقديم هذا التنازل، فلدى الخرطوم شبكة جيدة من العلاقات الخارجية، إذا أحسنت توظيفها يمكنها تعويض جانب من الخسائر التي حصدتها من وراء القائمة الأميركية، خاصة أن واشنطن قدمت تسهيلات سابقة، والسودان ما زال حبيسا لهذه القائمة. كما أن القضية الفلسطينية لا تزال مجمدة، وعلى الخرطوم أن تربط التطبيع بهذه القضية بصورة سياسية، وليس بالحصول على مكاسب فردية، كي تتجنب التعرض لانتقادات القوى الإسلاموية والقومية التي درجت على ركوب السفينة الفلسطينية. أما الرافضون، فجزء كبير منهم يأتي رفضه من باب الضغط، وتسجيل نقطة مهمة في مرمى السلطة الانتقالية، وزيادة وتيرة التحريض في الشارع، لتفقد صوابها وتلتحم معه، أو تضطر لمهادنته، وسط تطورات سياسية تزداد سخونة يوما بعد يوم، وجزء آخر، يتضاءل في الدول العربية عموما والسودان خصوصا، يرفض مبدأ التطبيع. في حالتي الصدام والمهادنة، يمكن أن تقفز القوى المعارضة لتوجيه المزيد من اللكمات السياسية والأمنية لمجلس السيادة، والحكومة التي تقف معه في هذا المربع، وتختلف مكونات كل منهما في مربعات أخرى تطفو على السطح من وقت لآخر. ظهرت علامات تأثير فريق الرفض في واحدة من المواقف الدالة قبل أيام، عندما جرى عزل المتحدث باسم وزارة الخارجية السفير حيدر بدوي، من منصبه عقب اعترافه بوجود اتصالات دبلوماسية مع إسرائيل، أكدتها مخابرات الأخيرة في اليوم نفسه، وأوحت الإقالة بأن السلطة الانتقالية مترددة، وتريد تسوية صفقة على نار هادئة، لامتصاص غضب يمكن افتعاله في الشارع تستغله فلول النظام السابق. حراك الدبلوماسية الأميركية ضمانات إضافية ضمانات إضافية تحمل زيارة بومبيو للخرطوم أهمية خاصة في هذا المضمار، فقد تكون مقدمة لتطوير علاقاتها مع جهات إقليمية ودولية عديدة، لما تحمله من مردودات في مجال تخفيف حدة الأزمات التي يمر بها السودان، وتبعث برسالة تطمين لمن يثقون في السلطة الحالية، وفرملة الاتهامات التي يبعثها معارضوها. تحوي رسالة التطمين ضمانات بتطوير العلاقات مع السودان بما يتجاوز ملف التطبيع ورفع اسمه من قائمة الإرهاب، فواشنطن بدأت تستأنف نشاطها في المنطقة وهي على بعد خطوات من انتخابات الرئاسة الأميركية، ما يفرض عليها توفير حوافز لتهدئة صراعات وجذب دول إليها، بينها السودان، قبل أن ترتمي في أحضان خصومها. إذا نجحت الخرطوم في توسيع فوائد العلاقات مع واشنطن بالطريقة التي تمكنها من شعور المواطنين بنتائجه سريعا على مستوى انتعاش الأوضاع ووقف التدهور الحاصل في قطاعات عدة، فمن الطبيعي أن يتم تقويض الانتقادات، فما يهم شريحة كبيرة من السودانيين هو إيجاد حلول ناجعة للأزمات التي تحيط بهم من كل جانب. يشير الوصول إلى هذه النقطة إلى نجاح السلطة الانتقالية في مهمتها، ما يمكنها من المضي قدما في خططها الداخلية والخارجية، ويصبح السودان نموذجا فريدا في علاقاته الإقليمية والدولية المتوازنة، بينما الإخفاق يفتح الباب أمام سيناريوهات مختلفة، بينها تحويل السودان إلى دولة فاشلة، ووضعه على خارطة تتنافى مع طموحات من قادوا الثورة وأسقطوا نظام عمر حسن البشير، جريا وراء الأمن والاستقرار والرفاه.
مشاركة :