الكتابة سترة واقية من الرصاص

  • 7/25/2015
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

كتب الشعراء قديمًا ليوقظوا الحرب ويمجدوها، أما الآن فيكتبون ليوقفوها، لا تأخذوا كلامي على محمل الجد، فأنا أكذب حين أقول: سيعلو صوت القصيدة على صوت البندقية، لكن في الواقع الملموس يكتب الشعراء ليجعلوا من الإنسان كائنًا سويًا يكره الحرب وأصوات الرصاص، وهذا أقصى حدود التفاؤل. منذ اندلاع الحرب في سوريا ربيع 2011، قضت المرأة السورية أوقاتاً صعبة بين أصوات المدافع والصرخات ورائحة الدخان، لم يكن لديها بديل غير الكتابة كمتنفس، لتكرس للجمال وسط كم هائل من الدمار وقبح الحرب، فكانت الكلمات بدائل القنابل، والقلم بديلاً عن الصاروخ. تقول الشاعرة كراسيا العوض: علمنا تولستوي: لا تكتب إلا حين تشعر بأن ريشتك في المحبرة ستترك طرفًا من لحمك داخلها لكن في الحرب أكوام اللحم تسد الطرقات بما فيها لحم الشاعر، فتخرج الريشة التي تغطس في المحبرة بالأحمر لتختلط الحقيقة بالدم وبالألم، ومع ذلك هناك شعراء لم يصمتوا، أما الذين يصمتون فليسوا سوى أشباه شعراء جلّ ما يحلمون به مقعد هلامي في حديقة التاريخ الخلفية، فالكلمة التي استطاعت حياكة رداء من الأبدية لجلجامش وهوميروس، منذ طفولة التاريخ، وتركت لنا مساحات كبيرة من التأمل بين الخيال والحكمة، لا بد أنها قادرة على إعادة الحياة. الكلمة التي هطلت في قصيدة إيلوار الحرية ألقيت من الطائرات فوق فرنسا وتداولها الفلاحون والطلبة في ذلك الوقت الذي توشّح بظلام النازية والفاشية، لا بد أنها قادرة على المقاومة واسترجاع الإنسانية المنهوبة، الكلمة التي تضع في المواجهة صانع التاريخ أمام الحالم وجهاً لوجه، وكما قال بابلو نيرودا: آه من الذين لم يفهموا سوى الصمت، بينما القصيدة كلمة، من الذين لم يروا سوى الظل، بينما الشعر ضوء ليل وحين يحمل الشعر أمتعته ويخرج من قلب الإنسان وأحاسيسه ليبني بيتاً إلى جانب همه وألمه ويمشي معه في شوارعه، ويضمد جرحه بالورود فإنه سينتصر، لأن الشعر رفيق الإنسان في دروبه الوعرة. كراسيا العوض شاعرة وإعلامية، قدمت برنامجها أرابيسك على شاشة تلفزيون الأرجنتين TIC، وهو برنامج معني بالفلكلور العربي من المحيط للخليج، أصدرت ديوانها: ضحية الريح باللغتين الإسبانية والعربية عام 2008 ونالت عنه جائزة من البرلمان الأرجنتيني، ومنه قصيدتها أنا التي سأغيب: غداً سأمضي/ دون أن أتركَ شيئاً خلفي/ سآخذ معي ليلةَ الأمس.. دخانَ السجائر/ زجاجةً تعاني الفراغ/ عطراً معطوبا/ شهقة الليل في آخر محطة/ مواعيد مرتبكةً تحت وطْء الإجهاض/ فرحاً كنت أنقره من كفيك كعصفور جائع/ فراشاتي الرمادية/ ربيعي الشاحب/ قصائد لم أكتبها لك. أما الشاعرة عبير سليمان فتقول: أن يوقف الشعراء الحرب ذلك حلم بعيد المنال في هذا الضباب الكثيف، فلو كان المنشغلون بالحرب يقرؤون الشعر بشكل أفضل لتريثوا قليلاً قبل التفكير في حمل السلاح، إنها مشكلة أمتنا التي لم تنشأ بينها وبين القراءة علاقة متينة. عبير سليمان أسست مع أصدقائها مجلة خوابي الإلكترونية المعنية بالشعر السوري، وأصدرت ديوانها الأول رسالة من بيدق ميت عام 2014، من شعرها قصيدة بهجة المكان: غَسيلُكِ المنشور بهجةُ للمكان/ كأنّما الحبالُ تقيمُ معرضاً فنياً/ للفساتين التشكيلية/ قطط الحي تحوم جائعة/ حول أسماكِ تنّورتك/ التي تسبح/عكس التيار يجلسُ الجيران على الشرفات/ كروّاد دار الأوبرا/ يصغون في شجنٍ/ إلى ثرثرة شالاتكِ/ والشرشفُ المعطّرُ/ شبكةٌ محتالة/ تصطادُ الغيوم الشريدة/ وأقواس القزح. تقول الشاعرة صبا قاسم: لا رهان على الشعر، بل هو من يراهن نفسه بنا وعلينا، الشعر ليس منفصلاً عن كينونتنا، نحن الغيوم والشعر المطر قد يهطل في وقته، فتكون المحاصيل شعراً، وقد يهطل في غير وقته، فتكون المحاصيل عناقيد عنب شتوية. الشعر قد يرتقي ببعضنا، وقد يهوي بآخرين إلى رمح يصارع الهواء، كل منا يأخذ من قوانين الطبيعة ما يناسب هواه، والشعر طبيعة، سماء وأرض وأنهار وعواصف، الكلمة سلاح أبيض، والحرب سلاح أحمر، ضحايا الكلمة دمهم حبر، وضحايا الحرب دمهم دم، قد يوقف المطر النار لكنه لن يمسك بيد روح ويمنعها من قطع عنق. صبا قاسم معنية بالترجمة عن الإنجليزية، أصدرت ديوانها يشتد بي الأزرق عام 2013 ومن شعرها قصيدة سبع صور لامرأة شامية: 1- أركان الحب.. ستة أنت.. وحواسي الخمس. 2- إذا تنكّر المطر لهطولكَ وسُدّتِ المسامُ أمام شوقكَ، جادلِ العتمةَ في وحدانية حزنها، ... وتعالَ مثلَ تانغو يذرف مرونة العتمة على خصر ماء. الشاعرة عبير نصر تقول: كلّ قصيدةٍ تلامسُ الإنسان، وهي رصاصة صائبة في قلبِ الموتِ والبشاعة، وكلّ قصيدة تجعلُ الحاقدَ يصغي لقلبه، وهي صوت واثق للحياة والجمال، أكتب لأؤكد أننا لا نزال بشراً، نتألم ونحبّ عندما نعيش تفاصيلنا البسيطة، وأفراحنا المتاحة، بينما الموت يخيّم في داخلنا كقدرٍ ولا حول لنا ولا قوّة، أظنّ أننا هكذا نهزمُ الحرب في أرواحنا على الأقل. أصدرتُ ديواني الأول (محضُ غواية) وسط كل هذا الخراب، وفيه كتبتُ عن الحب والجمال والحرية، في عالم بات يرتقي على جثث الشعوب المستكينة، أذكر: أنني كلما قرأت قصيدة لي في إحدى الأمسيات الشعرية يكون زخّ الرصاص وصوت المدافع حاضراً بقوة، مع هذا يبدو الجميع على مستوى عالٍ من الانتباه والاستمتاع بكل كلمةٍ أقولها، ربما ليؤكد شغفه بالحياة وتوقه لأن يحافظ على الإنسان الذي يبكي تأثراً لمنظر عشبةٍ تنمو رغم أنفِ الجدران، الذي يبتسم لمنظر عاشقين يقطفان قبلةً من فمِ العدم. الشعر يؤرخ ويؤرشف أوجاع الشعوب التي تقع تحت نيران الحروب، لكن بلغةٍ راقية ورؤية شفافة، وسنهزم الحرب عندما يصبحُ عدد القصائد مساوياً لعدد الرصاص الذي اخترق الصدور والضحكات. عبير نصر معنية بالشعر والرواية وكتابة السيناريو أيضا، صدر ديوانها محض غواية عام 2013 ومن شعرها قصيدة في الطريق إلى الحرب: في الطريق إلى الحرب ما زال هناك عشاقٌ تغصُّ جيوبهم بقبل وحبيبات تنطّ شهواتهم عبر نوافذِ العراء وتقفز ضحكاتهم فوق جدرانِ الصدى كما لو كانوا أحياء

مشاركة :