يوما بعد يوم، تنتعش وتنمو في داخلي الآمال والشعور باقتراب ذلك اليوم، الذي نتحول فيه كعرب من متلقين إلى مؤثرين وفاعلين وصانعي التغيير في العالم، مستخدمين السلاح الفتاك الأقوى ألا وهو الفن والثقافة، تحديدا السينما. واليوم أكثر من أي وقت مضى نرى الحلم يتحقق على سواعد وأفكار مبدعينا، صانعي المحتوى العربي السعودي، الذين أثبتوا قدرتهم على تقديم فن عالمي، يعكس حقيقة واقع حياتنا اليومية، ويقدمونها في قالب إبداعي راق جاذب، كما فعل صانعو "شمس المعارف". تملكني الإعجاب والذهول في الوقت نفسه عند مشاهدتي الفيلم الروائي السعودي الطويل "شمس المعارف"، الذي عرض في دور السينما التجارية السعودية وسط الإجراءات الاحترازية المتبعة لمواجهة فيروس كورونا، بعد ما كان من المقرر أن يفتتح فعاليات الدورة الأولى لمهرجان البحر الأحمر السينمائي، الذي ألغيت دورته الأولى بسبب جائحة كورونا في مارس 2020 في جدة. بين الإعجاب والذهول إنه الإعجاب النابع من كونه فيلما سعوديا يلقي نظرة على بدايات حركة صناعة السينما في السعودية، ويعكس روح الحماس والشغف لجيل الرواد المبدعين الذي بدأوا وألهموا هذا الحراك السينمائي الذي نشهده اليوم، بما يمثله من بداية مرحلة جديدة في ماهية الفيلم السينمائي السعودي، لينضم إلى المخزون السعودي الثقافي الغني لدينا في المملكة، أما سبب ذهولي؛ فيعود إلى التشابه الكبير بين اسم الفيلم وكتاب كنا قديما قد سمعنا عنه، عادت في داخلي تلك الذكريات بينما كنت صباحا أغوص في دهاليز الكتابات الصحافية، أرتشف قهوتي وأطلع على كل ما ينشر في الصحف الإلكترونية، اقرأ بين السطور والكلمات وأستمتع ببعض المقالات، ولطالما واظبت على قراءتي الصباحية منذ أعوام عديدة إلى أن أصبحت مدمنة عليها. وقع نظري في أحد المواقع الإلكترونية على عبارة "شمس المعارف"، ارتجف قلبي لوهلة ودون أن أدري ماذا أفعل، أقفلت الصفحة وتسمرت مكاني، بدأت الأفكار تجول في مخيلتي وبدأ الفضول يلامس عقلي، ولطالما كانت "شمس المعارف" منذ صغرنا من التابوهات، فهو كتاب مخطوط لأعمال سحر تتعلق بالجن، وينسب تأليفه إلى أحمد بن علي البوني المتوفى 622هـ، وقد تمت طباعته حديثا مع حذف وتحريف في بعض مواضيعه، ولقد طبع الجزء الأول منه وهو عبارة عن 577 صفحة في المكتبة الشعبية في بيروت، إضافة إلى احتوائه على أربع رسائل في نهايته من تأليف عبد القادر الحسيني الأدهمي. من الخيال إلى الواقع كان كبار أهالينا يرددون على مسامعنا أن كتاب "شمس المعارف الكبرى" من كتب تعليم السحر، وعلى هذا، لا يجوز النظر فيها ولا قراءتها ولا بيعها ولا شراؤها، لأن السحر حرام تعاطيه، وحرام طلبه وحرام تصديق أهله، بل هو من السبع الموبقات، ومنه ما هو كفر بالإجماع. دقائق استرجعت فيها هذه الذكريات وأنا مغمضة العينين، لكنني استفقت فجأة من تاريخ عابر وانتصر الفضول، فبدأت أبحث عن سبب طرح "شمس المعارف" إلى أن وجدت أنه لا علاقة له بكل ما راودني من أفكار، وهنا بدأ الذهول، وعلى وقعه استرسلت في الفيلم الذي تبلغ مدته ساعتين. صناعة المحتوى شتان ما بين الكتاب والفيلم، الذي ركز على صناعة المحتوى السعودي، بدءا من التسعينيات الميلادية، مرورا بأهم الفترات الحالية، ويتكلم عن الإرث كاملا في صناعة المحتوى، ابتداء من هرم صناعة المحتوى الفني السعودي "طاش ما طاش"، مرورا بصناعة المحتوى عن طريق موقع اليوتيوب، وصولا إلى الجانب المشرق للمحتوى الفني السعودي. تدور أحداث الفيلم خلال عام 2010 في إطار من الكوميديا، حول طالب يدعى حسام، يقترب من الانتهاء من مرحلة الثانوية العامة، ينجذب إلى عالم صناعة المحتوى البصري وآلية تنفيذها أكثر من دراسته، بمشاركة مجموعة من الأصدقاء، ومن ثم ينتقلون إلى التعاون معا على إنتاج فيلم رعب لا يكلفهم كثيرا من المال، وهو ما يقابل بكثير من التحديات والرفض ممن حولهم. ازدهار الإنتاج السينمائي السعودي إن صناعة المحتوى في المملكة العربية السعودية بدأت أخيرا في الازدهار، بعد أن كانت تعتمد على الخارج، ولقد بدأ المحتوى يكتسب صبغة محلية ويصنع داخل البلاد، وبإبداع أبناء المملكة، حيث يوجد عديد من المواهب السعودية التي تنافس عالميا وتتألق في عديد من البرامج والأفلام، وبدعم من قيادتنا الرشيدة تم فتح المجال للكوادر والمواهب السعودية لصنع محتوى ثقافي مميز، وقادر في الوقت عينه على فرض نفسه وتصديره عربيا وعالميا، ويتماشى هذا الأمر مع رؤية المملكة 2030، التي تضع صناعة المحتوى على قائمة أولوياتها، وبدأت شركات الإنتاج العمل بوتيرة متسارعة لتقديم محتوى مميز ومختلف عما هو متعارف عليه، وبالتالي زيادة الإنتاجات الحصرية والمميزة بهدف تقوية الإنتاج السينمائي في المملكة، وإبراز المواهب السعودية، التي تألقت في فيلم "شمس المعارف"، فضم نخبة من الفنانين العرب، منهم: صهيب قدس، براء عالم، إسماعيل الحسن، وأحمد صدام، وهو من إخراج فارس قدس، وإنتاج صهيب قدس. مجتمع غني بالأفكار لا يأتي المحتوى السعودي من العدم، بل إن المجتمع مليء بالأفكار المشوقة التي تستحق الذكر، فلذلك أتت فكرة الفيلم من واقع المجتمع، وتعكس صورة حقيقية من الواقع المعيش، فجاء فيلما متكاملا من ناحية السيناريو والتمثيل والإخراج. وحاز الفيلم الروائي السعودي الطويل، الذي استغرق تصويره 35 يوما تصويرا فعليا، الدعم من صندوق تمهيد، لدعم الأفلام من مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي بـ500 ألف دولار. من اليوتيوب إلى السينما يعد فيلم "شمس المعارف" خير دليل على توجه المملكة الصحيح في مجال صناعة المحتوى، بفكرة الفيلم، ويؤكد الدور الإبداعي لطاقم الممثلين، ويؤشر هذا الفيلم إلى بداية لافتة لتحليق الإنتاج السينمائي السعودي في سماء الفن السابع، رغم أن العمل لا يمثل مرحلة بداية صناعة المحتوى في السعودية التي بدأت مع نجومية أصحاب برامج اليوتيوب، وانخفضت موضتها في الوقت الحاضر. ومن هنا جاء فيلم "شمس المعارف" ليمثل نظرة مستقبلية للعهد السعودي الجديد في الاهتمام بمهن إبداعية مهمة. الجدير بالذكر أن مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي، تواصل دعمها لصناع السينما السعودية خصوصا بعد حالة الركود التي أصابتهم خلال الفترة الماضية إثر انتشار وباء كورونا. ومن منطلق هذا الدعم، قررت المؤسسة التبرع بحصتها من إيرادات فيلم "شمس المعارف" لمصلحة صناع الأفلام التي حظيت بدعم من المؤسسة.
مشاركة :