أكثر من عام أجلت بريطانيا نشر تقرير مثير للجدل حول التدخل الروسي في شؤونها الداخلية، والذي أعدته «لجنة المخابرات والأمن» في مجلس العموم. وكانت اللجنة قد أنهت التقرير في مارس 2019, وقدمته إلى الحكومة في أكتوبر من نفس العام للموافقة الأمنية، وتأخر صدوره بسبب عدم وجود حماس داخل «وستمنستر» لنشره بسبب المخاوف الأمنية حول الانتخابات العامة لعام 2019.وتعد «لجنة الاستخبارات والأمن»، (اي اس سي)، مكونًا رئيسيًا في البنية التحتية الدفاعية بالمملكة المتحدة. وتتكون من تسعة أعضاء من مجلس العموم ومجلس اللوردات، ويُمنح أعضاؤها سلطة الوصول إلى «الوثائق السرية»، وبالتالي يخضعون لقانون «الأسرار الرسمية»، وتصدر تقريرا سنويا. وبالنسبة لمسائل الأمن القومي، يحظى دور رئيسها بأهمية كبيرة، حيث إنه مسؤول عن تصرفات الحكومة ووكالات الاستخبارات التابعة لها، فاللجنة مكلفة بمراجعة الإدارات والسياسات والعمليات التي تنفذها وكالات مثل «جهاز الاستخبارات الداخلي»، و«جهاز الاستخبارات الخارجي»، و«مكتب الاتصالات الحكومية»، و«مكتب الأمن ومكافحة الإرهاب»، و«مؤسسة الأمن القومي».وحتى منتصف يوليو 2020 ظل الجمود بشأن نشر التقرير قائما، غير أن تعيين رئيس جديد للجنة قد فتح الطريق لإصداره في النهاية بعد الوقوف ضد المرشح المفضل للحكومة، وفوز النائب المحافظ، «جوليان لويس». وفي خطوة غير مسبوقة، قام رئيس الوزراء البريطاني، «بوريس جونسون»، بتجريد «لويس» من مهامه الحزبية. وردا على ذلك، وافقت اللجنة بالإجماع على نشر التقرير في 21 يوليو 2020. وقبل النشر تم حذف جزء كبير من المعلومات الحساسة للغاية من التقرير بسبب مخاوف من أن روسيا قد تستخدمها مجددا لمواصلة تهديدها لأمن المملكة المتحدة، حيث حلل عددا من القضايا الأمنية، مثل التضليل، والهجمات الإلكترونية، وتأثير المغتربين الروس. وينتقد التقرير -الذي يحمل عنوان «روسيا»- بشدة بريطانيا وأجهزتها الأمنية، ويوضح بالتفصيل الادعاء بشأن التقليل من تهديد روسيا لأمنها القومي، وإحجامها عن التحقيق في مخاوف وكالات الأمن والاستخبارات. ويوضح أن الحكومة «استهانت بالتهديد الروسي، وتهاونت في التعامل معه». وحول عدم فاعلية الأجهزة الأمنية للتحقيق في هذه التهديدات، تستشهد اللجنة، بجهاز الاستخبارات الداخلي، (ام اي 5)، على أنه قدم «نصا من ستة أسطر فقط»، بشأن التدخل الروسي؛ عندما طُلب منه تقديم أدلة مكتوبة للتحقيق. كما ناقش الرد البريطاني على واشنطن حول التدخل الروسي، وكتب أن فشل المخابرات البريطانية تمثل: «في تناقض صارخ مع معالجة الولايات المتحدة لمزاعم التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية لعام 2016, حيث تم إصدار تقييم للاستخبارات في غضون شهرين من عملية التصويت». وعليه، لخص «كيفان جونز»، عضو مجلس العموم وعضو اللجنة، الوضع بقوله: «إن الغضب ليس أنه كان هناك تدخل.. الغضب هو أنه لا أحد يريد أن يعرف ما إذا كان هناك تدخل».ومع ذلك كانت النتيجة الرئيسية التي توصلت إليها اللجنة، هي أن «تحقيقها لا يمكن أن يجزم في النهاية ما إذا كانت روسيا قد تدخلت بشكل يمثل خطرا على السياسة البريطانية أم لا». ووفقًا لها، كان السبب الرئيسي لهذا الوضع المُبهم؛ هو «عدم بذل جهود من قبل أجهزة المخابرات والأمن للتحقيق بجدية في المخاوف بشأن التدخل الروسي». وعلى الرغم من عدم قدرتها على إثبات التدخل الروسي بشكل قاطع، فقد سلطت الضوء على العديد من مخاوف الأمن القومي التي لم يتم تناولها، حيث وصفت محاولة روسيا للتدخل في استفتاء الاستقلال الاسكتلندي لعام 2014 بأنه «موثوق»، وأن هذا كان «أول تدخل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في مسار عملية ديمقراطية غربية».من ناحية أخرى حددت اللجنة مخاوف جدية بشأن «المغتربين الروس في المملكة المتحدة». وعلى الرغم من أنها لم تذكر اسماء أفراد بعينها، لكنها زعمت أن هناك اسماء بالفعل: «رحبت لندن بالقلة الروسية، وأموالهم بأذرع مفتوحة، وزودتهم بوسيلة لإعادة تدوير التمويل غير المشروع من خلال -ما يُشار إليه باسم-، «مغسلة لندن» والعلاقات على أعلى المستويات، مع الوصول إلى الشركات والشخصيات السياسية البريطانية».بالإضافة إلى ذلك شككت في روابط الأفراد الروس بالسياسيين البريطانيين، وعلقت على ذلك بالقول: «هناك عدد من أعضاء مجلس اللوردات لديهم مصالح تجارية مرتبطة بروسيا، أو يعملون مباشرة مع شركاتها الكبرى المرتبطة بالدولة.. يجب التدقيق في هذه العلاقات بعناية، نظرًا إلى إمكانية استغلال روسيا لهم». ووصف التقرير النفوذ الروسي في بريطانيا، بأنه أصبح «الوضع الطبيعي الجديد»، حيث يتم دمج الروس الذين تربطهم صلات وثيقة بالرئيس، «بوتين»، بشكل جيد في الأعمال التجارية والمشهد الاجتماعي، وقبولهم بسبب ثرواتهم. ومن ثمّ، فإن حجم التدخل الروسي في شؤون بريطانيا الداخلية «يعني أن أي إجراءات تتخذها الحكومة الآن ليست وقائية، ولكنها بالأحرى تخفف من حدة الضرر».ومع أخذ هذه الإخفاقات الأمنية في الاعتبار قدم التقرير عددا من التوصيات. وعلى الرغم من كونها مهمة، إلا أنها لم ترق إلى المطالبة بتغييرات جذرية داخل وكالات الاستخبارات. وأوصت اللجنة بقانون تجسس جديد لمنع الأفراد من تهديد الأمن القومي نيابة عن الحكومات الأجنبية. كما قدمت توصية أخرى تلزم الأفراد بالتسجيل في إدارة الحكومة، والتي تطابق نظاما موجودا بالفعل في الولايات المتحدة وأستراليا. واستندت التوصية الأخيرة إلى تفسير المدير العام السابق للمكتب الخامس (المخابرات الحربية)، «أندرو باركر»، بأنه: «اليوم لم تعد جريمة بأي حال من الأحوال أن تكون عميلا سريا لخدمات المخابرات الروسية في المملكة المتحدة.. ما لم تحصل على أسرار ضارة وتعطيها لقادتك».وفي الواقع لم تكن انتقادات لجنة المخابرات والأمن، للحكومة غير متوقعة. وفي الأسابيع الأخيرة، اعترفت «وستمنستر» بالتهديدات الأمنية الروسية. وفي 16 يوليو، صرح وزير الخارجية، «دومينيك راب»: أنه «من شبه المؤكد أن الممثلين الروس قد سعوا للتدخل في الانتخابات العامة لعام 2019». ووصف الوضع بأنه «غير مقبول على الإطلاق». وتعد هذه هي المرة الأولى التي يلقي فيها وزير بالحكومة اللوم مباشرة على روسيا لتدخلها في شؤون بريطانيا الداخلية. بالإضافة إلى ذلك، اتهمت «وكالات الاستخبارات»، بالتعاون مع نظرائها الأمريكيين والكنديين، روسيا بمحاولة سرقة معلومات عن لقاحات فيروس كورونا. وألقت الدول الثلاث، باللوم على مجموعة تسمى باسم «الدوقات» أو «الدب المريح»، مؤكدة أنها تمتلك روابط وثيقة بوكالات المخابرات الروسية.وفي محاولة من الحكومة لمواجهة رد الفعل السياسي واسع النطاق؛ أصدرت تفنيدا لنتائج اللجنة؛ حيث زعمت أنه «تم الاعتراف منذ فترة طويلة بوجود تهديد دائم وهام من روسيا وحلفائها»، فيما نفت أن المراجعة الأمنية للتدخل الروسي في استفتاء الاتحاد الأوروبي لعام 2016, كانت ضرورية، حيث نص التقرير على ما يلي: «لم نر أي دليل على تدخل ناجح في استفتاء الاتحاد الأوروبي». وفي كلمته بمجلس العموم، جادل «جونسون»، بأنه: «لا يوجد بلد في العالم الغربي مثل بريطانيا أكثر يقظة في حماية مصالحها أو المجتمع الدولي من التدخل الروسي»، زاعما أن الجهود المبذولة لانتقاد الحكومة بشأن التدخل الروسي «كانت مدفوعة برغبة في تقويض نتيجة استفتاء خروج بريطانيا عام 2016». ومن جانبه أكد وزير الأمن البريطاني، «جيمس بروكينشاير»، موقف الحكومة، بأن التدخل الروسي لا يزال «أولوية قصوى للأمن القومي»، ونفى بشكل قاطع أن يكون هناك تعمد لتجنب التحقيق في مزاعم التدخل الروسي. في حين، دافع زعيم حزب المحافظين السابق، «إيان سميث»، عن نهجها في التعامل مع روسيا، بحجة أن الصين تمثل حاليًا تهديدًا أمنيًا أكبر بكثير من موسكو، وكتب في صحيفة «التليجراف»: «لقد رددنا بقوة على حالة التسمم بذات غاز الأعصاب الذي استخدم في الاعتداء على العميل الروسي المزدوج، سكريبال وابنته، وأدنا محاولات التلاعب بالانتخابات العامة لعام 2019, وفرضنا عقوبات على نظام بوتين، ونجحنا بطريقة أو بأخرى في احتواء التهديد الروسي».وخارج الحكومة كانت هناك ردود فعل سياسية رافضة لنهج المملكة المتحدة في حماية أمنها القومي. وفي مجلس العموم، هاجم زعيم حزب العمال، «كير ستارمر»، تعاملها مع التهديدات الأمنية الروسية، قائلاً: «مكث رئيس الوزراء في هذا التقرير لمدة 10 أشهر وفشل في سد الثغرة في قانوننا للأمن القومي، فكيف سيقوم بمعالجة هذه الثغرة ومواجهة ذلك التهديد بالشكل القوي الذي يستحقه؟». وقال «نيك سيموندز»، وزير داخلية الظل: إن «التقرير يوضح حجم وأوجه القصور في استجابة الحكومة للحفاظ على أمننا القومي في مواجهة ما يشكل بوضوح تهديدًا متزايدًا وكبيرًا من جانب روسيا». أما النائب في الحزب الوطني الاسكتلندي، «ستيوارت هوزي»، فقد صرح بأن التقرير، «يكشف أنه لم يكن أحد في الحكومة يعرف ما إذا تدخلت روسيا في الاستفتاء أو سعت للتأثير عليه؛ لأنهم لم يرغبوا أن يعرفوا.. فقد تجنبوا بجدية البحث عن ذلك».في غضون ذلك رفض السفير الروسي لدى المملكة المتحدة، «أندريه كيلين»، هذه المزاعم قائلاً: «لا معنى لها»، مضيفا أنه «لا يرى فائدة في التدخل في انتخابات 2019. فيما وصفها المتحدث باسم الرئاسة الروسية، بأنها «مجرد اتهامات مثل الاتهامات السابقة، لا أساس لها من الصحة»، مشددا على أن موسكو «لم تتدخل أبدًا في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ولا تتسامح مع محاولات التدخل في شؤونها الخاصة».وفي ظل هذه الانتقادات أعلنت «وستمنستر» بالفعل تغييرات كبيرة في بروتوكولات الأمن القومي، واتخاذ خطوات لزيادة سلطات وصلاحيات وقوة وكالات الاستخبارات والأمن التابعة لها. وصرح رئيس الوزراء أمام البرلمان أن «الحكومة تعد العديد من التشريعات، وأننا بصدد سن قانون جديد بشأن التجسس، بالإضافة إلى قوانين لحماية الملكية الفكرية، وهناك أيضًا النسخة البريطانية الخاصة من قانون ماغنيتسكي الأمريكي والمعني بمواجهة أي أفراد، سواء أكانوا في روسيا أو في أي مكان آخر ينتهكون حقوق الإنسان». ومن جانبه قال «جيمس بروكينشاير»: إن الحكومة ستنظر أيضًا في تشديد القواعد على التأشيرات الاستثمارية وإعادة تقييم مدى قوة وصرامة قانون أسرار الدولة الرسمية، وأن لجنة الاستخبارات والأمن اعتمدت «نموذجا لتسجيل العملاء الأجانب» سيسمح لنا بتسليم العملاء الذين فشلوا في التسجيل لديها».ومع ذلك فإن زيادة الصلاحيات والسلطات والموارد المالية المتاحة لأجهزة الأمن والاستخبارات لن تقوى على خلق استجابة قوية لمواجهة الأنشطة الروسية المتغلغلة بالمملكة المتحدة. وبدلاً من الاستجابة لمضاعفة الجهود حيال التدخل الروسي أكد «جهاز الاستخبارات الداخلي» أن قائمة أولوياته بشأن التهديدات الإرهابية هي «إعطاء الأولوية دائمًا للتحقيقات التي تهدد الحياة.. ومهما كانت العمليات الديمقراطية مهمة فهي لا تمثل تهديدًا للحياة بالنسبة للجمهور بالطريقة التي تمثلها الأعمال الإرهابية».على العموم على رغم أن تقرير «لجنة الاستخبارات والأمن» غير حاسم ومحدود بسبب نقص المعرفة بالأفعال والانتهاكات الروسية فهو بلا شك يعد نقطة ضعف لحكومة المملكة المتحدة في التعامل مع قضايا الأمن القومي، خاصة أن عدم الاستعداد للتحقيق في التهديدات المحتملة والسماح لشخصيات روسية رفيعة المستوى بالاندماج في لندن قد قوض أمن الدولة وقدرات وكالاتها الاستخباراتية.. ومع قبول الحكومة بتوصيات تقرير اللجنة يبقى أن نرى ما إذا كان سيتم اتباعها، وكيف سيتم تنفيذها لمواجهة التهديدات الأمنية الروسية للمملكة المتحدة في المستقبل.
مشاركة :