ما يميز معاهدة السلام التي ستوقعها دولة الإمارات العربية المتحدة مع إسرائيل أنها أول مشروع سياسي عربي يتعامل مع إحدى القضايا المعقدة بطريقة عملية ويستخدم فيها المفاوض العربي مفهوم “فن الممكن”، الذي يمكن من خلاله مخاطبة الآخر، الدول غير العربية، باللغة السياسية التي يفهمها وفق ما تطرحه نظريات العلاقات الدولية القائمة على المصالح. في الحقيقة تشوهت السياسة العربية وقدرتها على التوصل إلى تفاهمات بين العرب أنفسهم أو مع الآخر، حتى أن التاريخ لم يسجل لنا نجاحا دبلوماسيا في التفاوض غير إخراج المستعمر الأوروبي. بدأ التشويه منذ استخدمنا الصراخ في حواراتنا، فصرنا لا نسمع بعضنا بعضا ويتملكنا التوتر والخجل من الآخر، حتى أن هناك من قام بتأليف كتب تحكي قصصا عن أن العرب مجرد “ظاهرة صوتية” دون أي فعل حقيقي. وأن مواقف العرب تعتبر ردة فعل وقتية ولا يستبعد أن الآخرين، ومنهم الإسرائيليون، تأكدوا من صحة هذه المعلومة. نالت القضية الفلسطينية وشعبها الجزء الأكبر من هذا التشويه، لأنها استخدمت من أصحاب الأصوات العالية من الشعبويين أمثال محمود أحمدي نجاد أو رجب طيب أردوغان وحسن نصرالله وغيرهم من “الحنجريين”، الذين ظهروا على “منبر الجزيرة” في قطر. فهؤلاء هم أكثر من أساء إلى القضية، في حين أنهم حققوا الكثير من المكاسب السياسية في بلدانهم بسبب تمرسهم في فن الخطابة والتدليس السياسي مثل رئيس النظام التركي، الذي يبدو أنه الأكثر حرفية منذ انسحابه الشهير من منتدى دافوس وبعدها عبر إرسال سفينة السلام من أجل اختراق الحصار المفروض على قطاع غزة. وفق ما سبق، أعتقد أن المعاهدة الجديدة تحتاج إلى تأييد سياسي عربي وكذلك من الشرائح الأخرى وخاصة من الفلسطينيين، الذين استخدمهم البعض في تحقيق أهدافه. المعاهدة هي مشروع عملي في وجه الخطابات السياسية ذات التوتر العالي وتجاه التحليلات التلفزيونية والمقالات السياسية والمسلسلات التلفزيونية التي أكسبت الكثيرين المال والشهرة وكانت غالبا ما تنتهي إلى التشنج بعد وقت قصير ونسيان القضية. إن ما تريده الإمارات من المعاهدة هو تصحيح المسار في تعامل الدول العربية مع الآخرين وربما مع إسرائيل تحديدا، فإذا كانت العاطفة التاريخية والثقافية هي التي تحكم العلاقات العربية العربية وتُبنى عليها التفاهمات السياسية فإن الأمر مختلف تماما مع الدول غير العربية. فهذه الدول تحتاج إلى أشياء ملموسة ووعود قابلة للتطبيق وأدوات للضغط الدبلوماسي وكذلك للمناورات السياسية، وربما هذا الأمر افتقدته المعاهدات والاتفاقيات الأخرى مع إسرائيل. الإمارات تداركت هذا الأمر لأنها تجيد فن التعامل مع الغرب. الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، سياسي شجاع لأنه قرر أن يتخذ منهجا مختلفا في طريقة استرداد الحقوق العربية والدفاع عنها، بل إنه وضع حدا لمن يتاجر بقضايانا العربية في الإقليم، لذا غضب هؤلاء من المعاهدة، بل إنه فضح مشروعاتهم “الوهمية” في تحرير القدس حيث خطا خطوة نحو أسلوب عملي يستند على أسس العلاقات الدولية. قد لا يكفّ النقد عن المبادرة الإماراتية، لكنها تبقى الخطوة التي لا يريد أغلب الساسة العرب الاعتراف بأنها الأصح والأصعب عليهم، كذلك لأنها لا تدلس على الشعوب من خلال دغدغة المشاعر والعواطف، إنما تعمل على الدفاع عن قضية وشعب وفقا للإجراءات المتبعة في الدول المتحضرة. عمليّا دولة الإمارات العربية المتحدة اتخذت قرارا تعارفت عليه الدول في مراحلها التاريخية واتبعته لاسترداد حقوقها المسلوبة، وهي بذلك قدمت العرب بصورة حضارية أمام العالم بدلاً من أسلوب العمليات الانتحارية والتفجيرات التي تقتل الأبرياء.
مشاركة :