عندما تكون زنجيًا فهذا ذنب لا يغتفر لك لأنك ستجني منه الكثير من التعنت والتنمر، بل سيصل الأمر إلى جريمة عنصرية تحدث كل يوم بسبب التفرقة العنصرية، ولكن يوم 27/5/2020 اعتصرت قلوب العالم حزنا عندما شاهدوا عبر التلفاز وقرأوا في الصحف عن مصرع المواطن الأميركي جورج فلويد صاحب البشرة السوداء تحت أقدام شرطي أميركي، والذي كان مقتله سببا لاشتعال المظاهرات في أكثر من ولاية أميركية، وكانت آخر كلماته "لا أستطيع التنفس رقبتي تؤلمني". "من فضلك لا أستطيع التنفس؛ بطني تؤلمني، رقبتي تؤلمني، كل شيء يؤلمني". بتلك الكلمات وجه المواطن الأميركي "جورج فلويد" (46 عامًا) ذو الأصول الإفريقية، والذي يعمل حارسًا في أحد المطاعم، استغاثته لرجل الشرطة صاحب العرق الأبيض، الذي كان يجثو على رقبته بركبته مانعًا إياه حتى من التنفس؛ ليلقى مصرعه بعد دقائق خنقًا، على خلفية إيقافه للاشتباه في قيامه بعملية تزوير؛ وتندلع شرارة جديدة في أزمة العنصرية ضد الزنوج في الولايات المتحدة الأميركية. هذا الحدث الجلل دعاني أسترجع قراءتي لرواية "زنج" للكاتية الأميركية صاحبة البشرة السوداء نيلا لارسن. والرواية ترجمة علي المجنوني، دار أثر للنشر والتوزيع، الدمام لمملكة العربية السعودية، ط 1، 2016 حيث تسرد الكاتبة في روايتها قضية العبور العرقي من خلال مآساتها في عائلتها؛ لأنها كانت الوحيدة بين أفراد أسرتها ببشرة سوداء فاستطاعوا العبور إلى عرق آخر وهي لم تعبر مثلهم، وظلت تعاني طيلة حياتها التنمر بسبب بشرتها السوداء.الكاتبة الأميركية من أصول هندية نيلا لارسن ولدت 13 أبريل/نيسان 1891 في شيكاغو بالولايات المتحدة لأب أسود من إحدى جزر الهند الغربية وأم دانماركية، بعد ترك والدها العائلة وهي في سن الثانية، تزوجت أمها من رجل آخر حملت نيلا اسمه فيما بعد. عايشت منذ طفولتها التمييز العنصري؛ لأنه يقسم أحياء شيكاغو التي كانت بدأت تستقبل السود الفارين من جحيم الرِّق في الجنوب الأميركي، فكانت الوحيدة صاحبة البشرة الداكنة في عائلتها البيضاء؛ وقد أرسلتها أمها لدراسة التمريض في جامعة فيسك بولاية تينيسي الجامعة التي ربما كانت الوحيدة التي تستقبل الطلاب السود في ذلك الوقت. بعد تخرجها عملت ممرضة في نيويورك وتزوجت فيها، كتبت لارسن روايتين تناولت فيهما تعقيدات الهوية العرقية. أصدرت أولاهما في عام 1928 بعنوان "رمل منهار" ثم أتبعتها بعد عام برواية يمكن ترجمتها باسم "عبور" أما "زنج" فهو ما أرادت لارسن أن تسمي روايتها به، توفيت عام 1964 عن اثنين وسبعين عاما في ولاية نيويورك. نيلا لارسن رغم قلتها في الكتابة بسبب إحباطها من التمييز العنصري الذي ظلَّ يمارس عليها كل ألوان القهر طيلة حياتها، ومن ضمن الإخفاقات التي تعرضت لها عندما رفض الناشر طباعة الرواية الثالثة لها بعد أن أتمتها بعد حصولها على منحة غوغنهايم، كأول امرأة من أصل إفريقي عقب طلاقها من زوجها 1932، ثم اختفت تدريجيا، ولم يُعرف عنها شيء حتى ماتت بعد سنة من رفض أختها البيضاء في كاليفورنيا استقبالها. كتبت لارسن روايتين تناولت فيهما تعقيدات الهُوية العرقية أصدرت الأولى بعنوان "رمل منهار"، ثم أتبعتها برواية "زنج" وهي خير مثال على هذا النوع من أدب العبور العرقي، إذ يشير العنوان الذي نشرت به بنسختها الإنجليزية إلى ذلك. وهو عبور أو عابرة. وعندما نتناول قضية العبور العرقي بمزيد من التفصيل ومسبباتها وأضرارها على الفرد العابر بل على المجتمع كله، وظهرت هذه القضية جلية من خلال روايتها "زنج"، نجد أن العبور العرقي transit Ethnic في أبسط صوره "إدعاء فرد من عِرق ما انتماءه إلى عِرق آخر أوفر حظًا، وأحرى أن يتمتع المنتمون إليه بمزايا سياسية، واقتصادية واجتماعية يسعون إلى احتكارها دون غيرهم". وفي حالة التمييز العنصري برهن "العبور العرقي" على أن اللون وحده محدد رئيس لهُوية تبين أنها ضحلة ضحالة لون البشرة، وهكذا يُشكل نجاح الأفراد والعابرين عرقيا، واستيعاب المجتمع الأبيض لهم هزءًا بهشاشة القيم التي يُبنى عليها المجتمع وسطحيتها باعتمادها المحض على لون البشرة. يرى توماس هولت في كتابه "مشكلة الحرية" أن القرن الحادي والعشرين سيكون أيضًا قرن التمييز العنصري. وهو نفسه قرن مقاومة هذا التمييز، هذه هي الرسالة التي يتضمنها هذا الكتاب.أقدم سرديات العبور العرقي رواية "الهرب ألف ميل في سبيل الحرية سنة 1860، حيث سردت فيه الكاتبة إلين كرافت قصة هروبها من جورجيا إلى بنسلفينيا 1848 في رحلة فرار من الاسترقاق شاقة ومحفوفة بالمخاطر، يصحبها زوجها الأسود. أدّعت كرافت فيها أنها رجل أبيض معتمدة على لون بشرتها، وأن زوجها الأسود هو خادمها ثم تتابعت بعد ذلك سرديات العبور العرقي أحدثها رواية "قوقاز" 1998 لدانزي سنا ...". والاسترقاق هذا الملمح الوحشي الذي ساد في أميركا قد رفد المشهد الثقافي بمظاهر معقدة وغنية في الآن نفسه حيث ظهرت سرديات الأسر ثم الرق ثم الحرية، ثم سرديات العبور التي جعلت من العبور العرقي موضوعا رئيسا لها حتى جاءت نهضة هارلم الثقافية التي كانت كاتبة الرواية عضوا بارزا فيها حيث أكدت نهضة هارلم على "الاعتزاز والتضامن العرقيين حتى بدأ العبور العرقي يتلاشى كممارسة إجتماعية رويدا رويدا عندما ظهرت الحركات المروجة للتعددية الثقافية التي تصر على الاعتراف بحقوق الأفراد بمعزل عن عرقياتهم". وعندما نقف عند رواية "زنج" نجدها في مجال دراسات النساء السود، حيث يشير العبور العرقي في الرواية إلي شبكة معقدة من الأدوات والمنعطفات والترحيلات الرمزية. وهو العائق الذي عانت منه كاتبة الرواية نفسها وسلطت الضوء عليه عبر سطور روايتها من خلال شخصيتين رئيسيتين من أصل زنجي آيرين ردفيلد، وكلير كندري وقد عبرت الأخيرة مستغلة بشرتها البيضاء. فالمعنى الحقيقي للعبور تكشفه آيرين بطلة الرواية تقول: "عمد بعض أبناء وأحفاد الزيجات المختلطة متسترين بلون البشرة الفاتح الذي يميز مظاهرهم إلى إخفاء هوياتهم الحقيقية وتبني هُوية جديدة ما كان لهم أن يتبنوها لو أُحتكم إلى عِرقهم في ضوء المعايير الاجتماعية السائدة." "تاريخ العبور عبارة عن تاريخ فقد عظيم، تاريخ هويات مختلطة ومشوشة، تاريخ معاناة يومية، تاريخ اقتلاع من الجذور، وصراع بقاء في العراء، ونظرا للطبيعة السريَّة فلا حصر دقيقا لحالات العبور العرقي، إلا أن مؤرخين اتفقوا على أن آلافا من السود عبروا الضفة الأخرى طالما اقتضى العبور بطبيعة الحال انتقال الفرد العابر إلى منطقة بعيدة عن مدينته التي نشأ فيها". يتجلى في هذه الرواية بتقنياتها السردية تيار الوعي بامتياز فتطالعنا سطورها الأولى بسرد ذاتي يسرد الكاتب فيه بوحا فياضا من المشاعر الإنسانية، يَسْتَكْنِهُ الأبعادَ الغائرةَ للراوي ومن يحيط به من شخوص، وما يحلُّ به من أماكن. من ضمن أشكال تيار الوعي في هذه الرواية المونولوج الداخلي كـ: "هكذا نما تدريجيا في آيرين شعور داخلي بالانزعاج، هل عرفت تلك المرأة هل استطاعت أن تعرف أن أمام عينيها مباشرة في سطح الداريتون تجلس زنجية؟ شعرت آيرين بمشاعر الغضب والازدراء والخوف تتسلل إليها ليست لأنها خجلت من كونها زنجية، بل إن ما أثار انزعاجها هو فكرة طردها من فندق الداريتون". ثم تكتشف أنها صديقة الطفولة كلير حيث تعلن كلير لها عن سبب عبورها تقول: "عرفت أني لست سيئة المظهر وأني قد (أعبر) لا يمكنك أن تعرفي يا رين كيف كنت أكرهكم جميعا تقريبا، عندما كنت أذهب إلى الجانب الجنوبي، كنتم تملكون كل الأشياء التي أردتها، ولم أستطع الحصول عليها أبدا، وقد جعلني ذلك أكثر تصميما على الحصول عليها وعلى غيرها هل تستطيعين أن تفهمي ما كنت أشعر به؟". تقول كلير: "أتعلمين يا رين لطالما استغربت من فتيات ملونات فتيات مثلك أنتِ، ومارغريت هامر، واستر دوس، وأخريات كثيرات لماذا لم تعبرن إنه لشيء سهل لدرجة مخيفة لو أرادت واحدة أن تعبر فكل ما يلزمه الأمر مقدار ضئيل من الجرأة". "الحق أنها كانت فضولية، كانت هنالك أشياء تود أن تسأل كلير كندري عنها أرادت أن تعرف عن مسألة العبور المجاذفة تلك عن الانعتاق من كل شيء مألوف حميمي للعثور على فرصة بيئة أخرى ربما ليست غريبة كليا لكنها من دون شك ليست حميمية ماذا يصنع أحدهم على سبيل المثال بخلفيته التي أتى منها، وكيف يقدم لنفسه، ما الذي يشعر به أحدهم حين يكون على اتصال مع زنوج آخرين". لترد عليها آيرين مستنكرة العبور العرقي "ماذا عن الخلفية أقصد العائلة، لا يمكن أن تهبطي على أناس من اللامكان ثم تتوقعي أن يستقبلوك بأحضان مشرعة". الرواية ناقشت التمييز العنصري الذي نتج عنه عوائق جسيمة منها العبور العرقي الذي عالجته "زنج"، وهذه الرواية تحيلنا إلى نفس مشتتة متعبة للشخصية الرئيسة آيرين ردفيلد في الرواية التي تعاني منذ ولادتها من التمييز العنصري عكس صديقتها كلير كندري التي استطاعت أن تعبر عرقيا. الرواية صرخة في جنبات هذا العالم الملئ بالخطايا والظلم وكل أدوات القهر التي تجعل فئة مستلبة كالعابرين، وقد صورت الكاتبة شخصية كلير كندري هذه الفتاة ذات البشرة البضاء، ولكنها من أصل زنجي والتي اختارت أن تعبر من بيئتها إلى بيئة البيض لتتمتع بما تمتاز به تلك الطبقة ولكنها عاشت حياة صاخبة انتهت بانتحارها. تقول آيرين عن شخصية كلير "كانت أنانية وباردة وصعبة المراس ومع ذلك كانت تتمتع أيضا بمقدرة غريبة على تحويل الدفء والشغف لصالحها، مقتربة أحيانا من بطولات مسرحية". المونولوج الداخلي أثناء قراءتها لرسالة كلير "أخبرت آيرين نفسها أنها ليست بحاجة إلى أن تقبل، ولن تفعل، ولن تساعد كلير في إدراك رغبتها الحمقاء في العودة إلى تلك الحياة التي نركتها وراء ظهرها من زمن طويل ومن تلقاء نفسها". تخبر كلير "العابرة" صديقتها آيرين: "إني وحيدة جدا...لا أستطيع فعل شيء حيال توقي إلى أن أكون معك من جديد، ولقد أردت أشياء كثيرة في حياتي، لا تستطعين أن تعرفي كيف أني طوال الوقت في حياتي البلدة هذه أرى الصور المشعة لتلك الحياة الأخر والتي اعتقدت مرة أني سعدت بالتحرر منها إنها مثل حمى مثل مثل ألم لا يتوقف أبدا، لأني ربما لم تكن لتتملكني الآن هذه الرغبة الفظيعة العارمة لو لم أرك هذه المرة في شيكاغو". ويمكن أن تتخذ العنصرية والتعصب أشكالا مختلفة - مما يعوق التقدم لملايين الناس في جميع أنحاء العالم. من حرمان الأفراد بالمبادئ الأساسية للمساواة إلى تأجيج الكراهية العرقية التي قد تؤدي إلى الإبادة الجماعية - وكلها يمكن أن تدمر حياة الأفراد وتكسر المجتمعات. ويعتبر الكفاح ضد العنصرية مسألة ذات أولوية بالنسبة للمجتمع الدولي ولا يزال هذا الملف مفتوحا فهل سينتهي بعد؟! باحثة وناقدة أكاديمية - مصر
مشاركة :