في منزله الذي دمر انفجار مرفأ بيروت واجهته ذات القناطر التقليدية، وألحق ضررا بسقفه المرتفع، يقاوم بسام باسيلا ضغوطا يقول إنه يتعرض لها من مالك برج مجاور لشراء عقاره، الذي ورثه من عائلته. ووفقا لـ"الفرنسية"، يتحدث سكان ومهندسون ومسؤولون محليون عن سماسرة ومستثمرين يجولون في أحياء دمر الانفجار أبنيتها أو صدعها، ويعرضون مبالغ مالية على أصحابها العاجزين بمعظمهم عن ترميمها. ويقول باسيلا (68 عاما) القاطن في الطابق الأول من مبنى تراثي عريق في محلة مونو في شرق بيروت، "يحاول مالك عقار قربنا يملك برجا كبيرا.. أن يضغط علي لأبيعه البيت الذي أملكه حتى يهدمه" بهدف "بناء برج عال" مكانه. ويروي باسيلا كيف رفض في وقت سابق عرضا مغريا قدمه المستثمر لقاء بيع منزله الذي تبلغ مساحته 450 مترا، وكان هذا المستثمر قد نجح في شراء الطابق الأرضي من العقار ذاته. وقال له حينها "في النهاية.. ستغادر" المبنى. ويمتنع الرجل اليوم، وفق باسيلا، عن "تدعيم الطابق السفلي"، ويضيف "إذا لم يفعل ذلك، قد يسقط منزلي، يفترض به أن يدعم المبنى، فبعد الانفجار لم يسأل أحد عنا وكأننا غير موجودين". بعد أكثر من ثلاثة أسابيع على الانفجار المروع، تفقدت منزل باسيلا مجموعة مهندسين متطوعين طمأنوه إلى أن في إمكانه البقاء في المنزل لكن ترميمه يتطلب وقتا، ولم يأت أحد من جانب السلطات. وأطاح الانفجار بقناطر جميلة أصبحت أكواما من الحجارة، وتسبب في سقوط جزء من أرضية الشرفة، وبتصدع سقف المنزل الذي يتجاوز ارتفاعه الستة أمتار. ويقول باسيلا، وهو مصور فوتوغرافي سابقا يعتاش اليوم من سيارة أجرة، "ولدت في هذا المنزل وولد أبي فيه من قبلي، لا أستطيع العيش في بيت آخر". ويضيف "إذا توفرت المساعدات نستطيع الترميم، من دونها لا يمكننا ذلك". وتضم أحياء الجميزة ومار مخايل ومونو عشرات الأبنية التراثية، التي تتميز إجمالا بمساحتها الكبيرة وجدرانها المزخرفة وقناطرها الداخلية وسقفها المرتفع. وأجرت وزارة الثقافة مع منظمات مسحا طال 576 مبنى تراثيا، وأحصت 86 مبنى متضررا، 44 منها معرض لخطر الانهيار الكلي ويحتاج إلأى تدعيم كامل و41 في خطر انهيار جزئي. بعد ثلاثة أيام من انفجار المرفأ، وبينما كان سكان المنطقة يتوافدون إلى مكتبه للإبلاغ عن الأضرار التي لحقت بممتلكاتهم، طرق زائر غير متوقع مكتب مختار الرميل بشارة غلام. ويروي غلام: جاءني شخص قال إنه سمسار وأعرب عن رغبته في شراء منازل تضررت جراء الانفجار، مبديا استعداده لدفع المبلغ الذي يحدده المالكون، وأبلغته بنبرة حازمة "لن نبيع". وبعد تداول أنباء عن عروض مغرية بالدولار في ظل انهيار اقتصادي وتبخر العملة الأمريكية من الأسواق منذ أشهر، حذر ناشطون من سماسرة غربان يحومون فوق أحياء بيروت المنكوبة. وأصدرت وزارة الثقافة قرارا بمنع بيع العقارات المتضررة إلا بعد الانتهاء من الترميم، كما منعت وزارة المالية بيع العقارات ذات الطابع التراثي والتاريخي إلا بعد أخذ موافقة وزارة الثقافة "منعا لاستغلال الحالة الراهنة للمناطق المنكوبة". وعلى جدران عدد من المنازل، علقت أوراق كتب عليها "بيتي ليس للبيع"، فمنذ وقوع الانفجار، ينهمك أعضاء جمعية "أنقذوا تراث بيروت" في تقييم حالة الأبنية، وكذلك يفعل عشرات المهندسين المتطوعين من نقابة المهندسين أو من كبرى شركات الهندسة وجمعيات عدة. ويتحدث مؤسس الجمعية ناجي راجي عن "أخبار تصلنا من أشخاص توجه إليهم مستثمرون تابعون لسياسيين معينين" من أجل شراء عقاراتهم. ويرى أن همّ المستثمرين هو تحقيق "الربح المادي فقط باعتبار أن المنطقة سياحية بامتياز". وفي وسط شارع الجميزة الذي لطالما اكتظ برواده ومقاهيه، ألصق الدرك على مبنى من طبقتين ورقة تطلب من السكان إخلاءه لحين التأكد من زوال خطر انهياره. وفي المبنى، تتفقد المهندسة ريتا سعادة (23 عاما) أضرار منزلها الذي ورثته من جدها لوالدتها، وتتدلى من إحدى الغرف التي طليت جدرانها بالأخضر الفاتح ثريا تقليدية ولا تزال واجهتها بقناطرها الثلاث قائمة، إلا أن أرضيتها تقوضت بعدما تضررت دعائم المنزل. وعلى أرض الغرفة المجاورة، تبعثر زجاج أكواب ثمينة مع حطام أبواب خشبية وغطاء طاولة مشغول يدويا. ويحتاج المبنى إلى تدعيم وترميم أدراجه المعلقة قبل عودة قاطنيه، وتقول ريتا "هذا تراث ويجب أن يرمم، نحاول التواصل مع منظمات غير حكومية لتوفير تمويل، لأننا شخصيا غير قادرين على الترميم بمفردنا". ونبهت أودري أوزلاي المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للثقافة والتربية والعلوم إلى أن عملية الترميم تتطلب وقتا طويلا ومئات ملايين الدولارات. وقالت خلال زيارتها إلى بيروت الخميس الماضي، "دون أحيائها التاريخية ودون مبتكريها، لن تكون بيروت بيروت"، محذرة من أن روح المدينة على المحك. وبعد الحرب الأهلية (1975 - 1990)، تولت شركة "سوليدير" الخاصة، التي أنشاها رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري إعادة إعمار وسط بيروت الذي كان مدمرا، وأثار ذلك انتقادات واسعة تناولت عملية شراء العقارات الجماعية بأسعار متدنية، مقارنة بما صارت تساويه العقارات بعد الإعمار. وعد كثيرون أن عملية إعادة الإعمار لم تأخذ في الحسبان روحية الأحياء القديمة، إنما تم تصميمها لجذب الاستثمارات والسياح والأغنياء. وفي آخر شارع الجميزة، يقف آلان شاوول أمام مبنى يملكه وقد تضرر بشدة قائلا جل ما أريده أن يعود منزلي كما كان. ثم يسأل بانفعال "ثمن بيتي ثلاثة ملايين دولار، تكلفة ترميمه 200 ألف دولار وليس بحوزتي ليرة لإصلاحه، ماذا أفعل؟". وعما إذا كان البيع هو الحل، يجيب "هذا تاريخنا، لا أبيعه".
مشاركة :