«الإسلام بريء من التطرف والدموية.. ولو ظهرت (داعش) في حقبة زمنية مختلفة لوصفوا بعبدة الشيطان وإبليس.. لا بالمسلمين». هكذا أعربت البارونة البريطانية وعضوة البرلمان الأوروبي إيما نيكلسون عن استنكارها الشديد لمن يربطون أنشطة «داعش» الدموية وآيديولوجيتهم الهدامة بالإسلام والمسلمين. وتصدّرت البارونة ومؤسسة «عمار» الخيرية التي ترأسها عناوين الصحافة البريطانية والعالمية في الأيام الماضية، من خلال تنظيمها لزيارة 3 بنات إيزيديات هربن من قبضة داعش إلى مدن بريطانية، في إطار حملة توعوية في المدارس والأكاديميات البريطانية حول خطورة التنظيم الإرهابي وآلياته الترويجية. أكدت نيكلسون في حديث مطول مع «الشرق الأوسط» في العاصمة البريطانية أن الهدف من تنظيم هذه الزيارة، إلى جانب التوعية بوحشية ممارسات التنظيم الإرهابي، هو تعزيز الجهود المبذولة على مختلف المستويات الحكومية والمجتمعية لمقاومة آلية «داعش» الإعلامية التي وجدت في مواقع التواصل الافتراضي أرضًا خصبة لتبرير العنف والتطرف، وحصد التعاطف في بعض الأوساط الشبابية سريعة التأثر. وبدأت نيكلسون، من خلال مؤسسة «عمار» الخيرية، أنشطة دعم ضحايا إرهاب داعش في العراق منذ سقوط الموصل في يونيو (حزيران) 2014. وتوضّح نيكلسون: «توجه عدد كبير من الضحايا إلينا طالبين مساعدات غذائية وطبية ونفسية بعد أن فقدوا منازلهم وأقاربهم ومصادر رزقهم. ولم يقتصر الأمر على النساء والفتيات فحسب، بل استقبلنا الجميع؛ من فتاة 14 ربيعًا فقدت ساقيها في انفجار مروع، إلى أمهات وشباب ورجال في حاجة إلى عمليات جراحية ورعاية طبية ومتابعة نفسية». وفي هذا السياق، افتتحت «عمار»، بعد حملة جمع تبرعات في لندن، مركزًا صحيًا في أحد مخيمات اللاجئين في محافظة دهوك في إقليم كردستان العراق، في أوائل شهر فبراير (شباط) الماضي، حيث بلغ عدد المرضى 450 يوميًا، جلهم إيزيديون. وتقول نيكلسون: «التقيت خلال إحدى زياراتي لهذا المخيم بثلاث بنات إيزيدات لم يكن يعرفن بعضهن من قبل، لكنهن مررن بالتجربة نفسها، وتوجهن إليّ بالطلب نفسه». وتوضح عضوة مجلس اللوردات البريطاني أن الفتيات التي تبلغ أعمارهن 16 و19 و21 سنة، هربن من قبضة «داعش» بأعجوبة بعد أشهر من الاحتجاز، كنّ خلالها في حكم «سبايا» لمقاتلي التنظيم. وطلبت الفتيات الثلاث فرصة للإدلاء بشهاداتهن والتبليغ عن العذاب الذي مررن به خلال فترة الاحتجاز.. وفي الوقت الذي فشلت فيه المقاربة الأمنية التي انتهجتها السلطات البريطانية في الشهور الماضية لردع المتعاطفين مع «داعش» عن الالتحاق بصفوف القتال، سعت جهات في المجتمع المدني تشمل أكاديميات ومدارس ومجلس مسلمي بريطانيا ومؤسسات خيرية وغيرها إلى البحث عن حلول بديلة. وتدخل زيارة الفتيات الثلاث، نور وبشرى ومنيرة، إلى أكاديميات بريطانية مسلمة - أو ذات أغلبية مسلمة - في سياق هذه الجهود. والتقت الفتيات الثلاث، بعد أن توّجت مجهودات البارونة نيكلسون لإحضارهن إلى بريطانيا بالنجاح، بتلميذات مسلمات في أكاديمية مدينة بريستول وأكاديمية «سالتلي» في مدينة بيرمينغهام التي شهدت أحد أعلى مستويات انضمام شباب وشابات مسلمات دون سن 25 إلى «داعش» في سوريا والعراق. وكان اللقاء بين الفتيات الثلاث وتلميذات الأكاديمية عاطفيا ومؤثرا إلى حد كبير، خصوصا بعد أن استمعت الأخيرات إلى شهادات الناجيات الثلاث. قالت ناصرة أحمد (18 سنة)، وهي إحدى تلميذات الأكاديمية التي لا تزال على اتصال بالبريطانية يسرى حسين (15 سنة) التي التحقت بـ«داعش» منذ أشهر، إن حسين أكدت لها أن أعضاء «داعش» وفروا لها «بيتا، وزوجا، ومالاً.. كل ما قد تحلم به فتاة في هذا العمر». الشيء الذي أدّى إلى انفعال وغضب الفتيات، حيث شدّدت نور: «كل ذلك كذب. حياة (داعش) حياة من الاغتصاب اليومي، بل مرات كثيرة في اليوم، والضرب المبرح والقتل والبيع إلى رجال آخرين (من التنظيم)». وأضافت: «لا تذهبوا! كل ذلك كذب. إنهم مجرمون». وحكت الفتيات الثلاث قصصهن في الأكاديمية واحدة تلو الأخرى بـ«شجاعة وكرامة لم أرَ لها مثيلا»، وفق ما قالته نيكلسون، مشيرة إلى أن «شجاعة هذه الفتيات نادرة للغاية.. فعادة لا تتجرّأ النساء على الحديث عن حوادث الاغتصاب الأليمة». كما استحضرت الفتيات تفاصيل هجوم «داعش» على قراهن وتعذيبهن للأهالي، كما تحدّثن عن التعذيب اليومي الذي تعرّضن له من طرف «رجال في 60 من عمرهم أحيانا». في شهادتها المؤلمة، قالت نور (21 سنة): «قاموا بتفريق الرجال عن النساء، وأطلقوا النار على الرجال. لدي 7 إخوة، واحد فقط استطاع الهرب ولم أسمع خبرا عن الستة الآخرين. أخذوا أمي برفقة نحو 70 امرأة أخرى بعيدًا. سمعنا دوي طلقات نار، ورأينا آلة حفر. لم يحتفظوا (أي مقاتلي داعش) إلا بالنساء الشابات». وأضافت منيرة (16 سنة) إلى حديث نور الذي صدم المستمعات في الأكاديمية: «تتراوح أعمار قائدي (داعش) بين 50 و70 سنة. كنت في الـ15 من عمري عندما اختارني أحد قائدي (داعش). قال إن الصغيرات (في العمر) أحسن وأجمل من الباقيات. ثم (مل) مني بعد أسابيع وباعني إلى أبو عبد الله الذي باعني بعد انقضاء أسابيع من الإساءة والاغتصاب المتواصل إلى عماد». لم تقضِ الفتيات الثلاث إلا أيامًا معدودة في بريطانيا، إذ إن زيارتهن كانت مشروطة بعدم طلبهن حق اللجوء السياسي من السلطات والعودة إلى العراق مباشرة، على حد قول البارونة نيكلسون. لكن نيكلسون أفصحت لـ«الشرق الأوسط» أن الحكومة الألمانية بدأت عملية منح الإقامة للفتيات الثلاث. وتقول بهذا الصدد إن «ألمانيا قامت بعمل رائع، فقد استقبلت في بلادها ما يقارب 100 ألف لاجئ إيزيدي خلال السنوات الماضية». وتتابع: «لو نقارن ذلك مع بريطانيا، فإنها لم تقبل إلا 50 إيزيديا.. ولم تمنح حق الإقامة إلا لشخص واحد من سوريا على حد علمي.. لدينا مشكلة حقيقية». وتعليقًا على أسباب انتشار التطرف في بعض الأوساط البريطانية، أفادت نيكلسون: «السبب الأول هو عامل الجهل. فالفتيات في الأكاديميات صدمن بحكايات الفتيات الناجيات الثلاث». وتردف: «من الواضح أننا نواجه تهديد التطرف في بريطانيا. وقد يكمن أحد الأسباب في تجاهل المجتمع أهمية الدين في حياتنا اليومية وتقاعس المناهج التعليمية في تلقين الديانات للتلاميذ بشكل مناسب». كما أوضحت البارونة نيكلسون أن التطرف ليس حكرًا على الإسلام، وتقول: «إن ننظر إلى الديانات الأخرى، نجد عناصر متطرفة وإن لم تكن بنفس دموية ما يعرف بـ(داعش). إنه فعلا لحظ سيئ أن هؤلاء الدمويين اتخذوا كعلامة تجارية لعنفهم دين الإسلام». وتتابع: «ينبغي تغيير طريقة تلقين الديانات في بريطانيا، وضمان اختلاط التلاميذ من كل الديانات مع غيرهم بشكل يومي». أما العامل الأخير الذي ذكرته مبعوثة رئيس الوزراء البريطاني المكلفة بالتجارة في العراق هو «ذكاء (داعش) في استغلال قنوات التواصل الاجتماعي». فكل طفل اليوم قادر على ولوج الإنترنت بسهولة. وقارنت نيكلسون صعوبة محاربة آلية «داعش» الإعلامية بصعوبة مكافحة «دعارة الأطفال على الإنترنت». وأسست «عمار» عام 1991 بعدما زارت البارونة، التي كانت آنذاك رئيسة المجموعة البرلمانية البريطانية لدعم الكويت، أحد مخيمات اللاجئين عقب انتفاضة البصرة، وأدركت الحاجة الملحّة للمساعدات الغذائية والطبية في المخيم. وتوسعت أنشطة المؤسسة الخيرية منذ ذلك الحين لتشمل إنشاء مستوصفات ثابتة ومتنقلة وتغطية احتياجات جميع المخيمات الصحية، حيث بلغ عدد المرضى المتكفل بهم نصف مليون. أما الجانب الآخر لأنشطة المؤسسة، فيتعلق بدعم التعليم في مخيمات اللاجئين وخارجها، إذ أنشأت «عمار» عددا من المدارس لأبناء وبنات اللاجئين، ويبلغ عدد التلاميذ المستفيدين 60 ألفا وفق ما أكدته نيكلسون. كما قامت المؤسسة بالتنسيق مع منظمة «اليونيسكو» الأممية من خلال توفير مناهج دراسية موحدة لجميع المدارس وقامت بمنح شهادات معترف بها دوليا لطلبة هذه المدارس. وعلى عكس باقي المؤسسات الخيرية في منطقة الشرق الأوسط التي تستند على الكفاءات الأجنبية لتحقيق أهدافها، تنهج المؤسسة استراتيجية حيث تسعى إلى الاستفادة من قدرات ومهارات المواطنين العراقيين في العراق واللبنانيين في لبنان سواء كانت طبية أو تعليمية أو تقنية. أما فيما يتعلق بتمويل المؤسسة، فأكدت نيكلسون أن «عمار» تعتمد على المساهمات الفردية وعلى الدعم المؤسساتي من الأمم المتحدة، ومن المفوضية الأوروبية، وشركة «شل» و«بي دبليو سي» وغيرها إذا تعلق الأمر بمشاريع محددة.
مشاركة :