بورصة لندن تتجه للتحول إلى بوابة للتمويل العالمي رغم احتدام المنافسة مع "الأوروبية"

  • 9/1/2020
  • 21:28
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

لم تتسم عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي بالسلاسة أو الود أو الدفء في كثير من الأحيان، فالاجتماعات الوزارية وقمم زعماء الاتحاد شهدت في عديد من المرات ما يمكن وصفه باستقطاب "مهذب" بين لندن التي وقفت غالبا وحيدة، أو مدعومة بعدد محدود من الأعضاء، في مواجهة أغلبية دول الاتحاد بقيادة ألمانيا. وفي الواقع فإن بعض المحللين يعدون شعور لندن بعدم قبول الاتحاد مقترحاتها في القضايا المصيرية والحيوية، كان سببا رئيسا في الطلاق البائن بين البريطانيين والأوروبيين بعد أكثر من أربعة عقود من زواج مضطرب. لكن أيا كانت الخلافات بين بريطانيا وباقي الأعضاء، فإن دول الاتحاد كانت دائما تدرك المكانة المميزة لبورصة لندن، بين البورصات العالمية عامة، وبورصات الاتحاد الأوروبي خاصة. وعلى الرغم من أن بورصة لندن تحتل عمليا المرتبة الثانية بين البورصات الأوروبية بعد البورصة الأوروبية ومقرها الرئيس العاصمة الهولندية أمستردام، التي تدير أسواقا في بروكسل، لندن، لشبونة، دبلن، أوسلو، وباريس، ويبلغ عدد الشركات المدرجة فيها منتصف العام الماضي 1500 شركة بقيمة 4.1 تريليون يورو، فإن بورصة لندن ظلت عمليا قناة الربط الرئيسة بين الاتحاد الأوروبي والأسواق الدولية. لا تبدو العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة في أفضل حالها في الوقت الراهن، حيث إن خروج بريطانيا من الاتحاد يهيمن على عناوين الأخبار، ويوجد أجواء غير مريحة بين الطرفين، وسط هذا الوضع المشحون استحوذ تطور آخر على اهتمام المؤسسات المالية الأوروبية والبريطانية أخيرا، وهو المتعلق برغبة بورصة لندن في شراء الشركة المالية الأمريكية ريفينيتيف في صفقة تبلغ قيمتها 27 مليار دولار أمريكي، ما دفع المفوضية الأوروبية إلى فتح تحقيق موسع بشأن الصفقة، ومدى تدخلها ضمن الصفقات الاحتكارية التي تمنعها قوانين الاتحاد. وفي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي صدر حكم يرجح رفض المفوضية الأوروبية الصفقة بشكلها الحالي. وفي إطار جهود بورصة لندن للاستحواذ على الشركة الأمريكية، ولنيل موافقة المفوضية الأوروبية أعلنت أخيرا، أنها ستبيع البورصة الإيطالية بأكملها أو منصة تداول السندات الخاصة بها MTS. في عام 2007، اندمجت بورصة لندن مع بورصة ميلانو "البورصة الإيطالية"، لتشكيل مجموعة بورصة لندن. مع هذا يظل السؤال قائما، لماذا يهتم الاتحاد الأوروبي باستحواذ بورصة لندن على شركة بيانات مالية أمريكية، ولماذا تبيع بورصة لندن للأوراق المالية البورصة الإيطالية لتهدئة هذه المخاوف، وهل يقف عالم المال والأعمال أمام وضعية جديدة يتغير فيها الموقف الأوروبي من بورصة لندن بعد خروجها من عضوية الاتحاد، وهل يأذن ذلك ببداية عصر من المنافسة المحتدمة بين بورصة لندن والبورصة الأوروبية، وهل يقلص ذلك من المكانة التي تحظى بها بورصة لندن عالميا؟. آدم سونتون المحلل المالي في بورصة لندن، يرى أن فهم الوضع الراهن والمستقبلي في علاقة بورصة لندن بالبورصات الأوروبية يكمن في تغيير مفاهيم البورصات بشكل جذري خلال الأعوام الماضية. ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن لنظرة السائدة للبورصات تركز على أنها أسواق شبه عامة، وأنها مؤسسات مالية تحظى بوضعية خاصة داخل الدولة، لكونها ضرورية للتنمية الاقتصادية، لكن هذا المفهوم مفهوم تقليدي، فواقعيا البورصات أصبحت شركات عالمية قوية تعمل بنشاط لتشكيل تطور أسواق رأس المال حول العالم، مع تداعيات مهمة على المستثمرين والشركات والدول". ويضيف "لقد تغيرت طريقة العمل التقليدية للبورصات، فالإصلاحات الاقتصادية وعمليات التحرير المالي، جعلت البورصات السوق الأكبر بين الأسواق الدولية، وحولتها إلى شركات فاعلة مستقلة ومتنافسة مدفوعة بالربح، بحيث إن كل دولة الآن حريصة على أن يكون لها علم وشركة طيران وطنية وبورصة لتداول الأسهم". تلك الوضعية الجديدة للبورصات كانت نتيجة طبيعية لرياح العولمة المتنامية، وتزايد قوة المنافسة الدولية، خاصة في القطاع المالي الذي يتجه إلى مزيد من التكامل العابر للحدود، بهدف التوسع واكتساب أسواق جديدة. وأوجد ذلك وضعا معقدا من التحالفات بين البورصات، في الوقت ذاته منافسة مستعرة أيضا للتحليق إلى أعلى مدى في عالم المال والأعمال، وواقعيا باتت البورصات الآن منظمات ضخمة تمتد عبر العالم، تماما كشركات التكنولوجيا والتجارة الإلكترونية. من جهته، يقول لـ"الاقتصادية"، الدكتور نايجل سميث أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة كامبريدج، "تحولت البورصات من مواقع تداول فعلية إلى شركات تكنولوجيا مالية، والتفاعل وجها لوجه في قاعات التداول تم استبداله تدريجيا بالأسواق الإلكترونية. وبعض البورصات الأمريكية لا تحمل من علاقتها بالاقتصاد الأمريكي سوى الاسم، إذ إن 10 في المائة فقط من عوائدها المالية تأتي من الولايات المتحدة، أما الباقي فمن استثماراتها الدولية". ويعتقد الدكتور نايجل سميث أن العالم الرقمي غير اللعبة بشكل أساسي، حيث أدت تكنولوجيا السوق والبيانات والمؤشرات بشكل متزايد إلى زيادة أرباح البورصات، لكنها أبعدتها عن مفاهيمها التقليدية. وربما يكون ذلك المفهوم الجديد للبورصات السبب الحقيقي وراء النشاط الملحوظ لكبرى البورصات العالمية للعمل على إنشاء الأسواق وتنظيمها وتشكيلها في جميع أنحاء العالم، والعمل على التحكم في البنية التحتية للتمويل العالمي، عبر الهيمنة على البيانات والمؤشرات والمنتجات المالية ومنصات التداول والمقاصة، ومن ثم تكون لها القدرة الفعلية على تقرير كيفية عمل الأسواق سواء تعلق الأمر بالمستثمرين أم بالشركات أو حتى الدول. بورصة لندن بالطبع كانت في قلب هذا التحول العالمي، وأحد اللاعبين العالميين الذين يهيمنون الآن على أسواق رأس المال. وتدير بورصة لندن مع آخرين الأسواق الأكبر والأكثر شهرة وربحية في العالم، وذلك بفضل امتلاكها أهم المنتجات والمؤشرات والمعرفة التكنولوجية. وفي حين إن هناك أكثر من مائة بورصة في جميع أنحاء العالم، فإن بورصة لندن وخمس شركات دولية أخرى هي "CME وICE وCboe وناسدك ومجموعة بورصة دوتشيه" تمثل أكثر من 50 في المائة من أرباح الصناعة المالية. هذا تحديدا ما يجعل الاتحاد الأوروبي يهتم بقضية مساعي بورصة لندن للاستحواذ على شركة بيانات مالية أمريكية، إذ يعني ذلك تعزيز مركزية بورصة لندن في الاقتصاد العالمي، وهو ما يصعب على الأوروبيين القبول به بعد خروج المملكة المتحدة من عضوية الاتحاد، وتحولها إلى منافس لهم بعد عقود من التعاون الاقتصادي. يضاف إلى ذلك أن مؤشر فوتسي راسل التابع لبورصة لندن يعد مزودا بريطانيا لمؤشرات سوق الأوراق المالية وخدمات البيانات، وهو مملوك بالكامل لبورصة لندن، وبحصولها على شركة ريفينيتيف الأمريكية ستتحول بورصة لندن عمليا إلى بوابة التمويل العالمي. من جانبه، يؤكد لـ"الاقتصادية"، نيوتن لنسبري الخبير الاستثماري، أن "الصفقة شديدة الأهمية لبورصة لندن إلى الحد الذي أعرب المسؤولون فيه عن استعدادهم للتخلي عن منصات التداول الأوروبية للأسهم والسندات والمشتقات المالية والصناديق المتداولة في البورصة الإيطالية ومنصة MTS التي تعد جزءا مهما من البنية التحتية لسوق السندات الأوروبية بمتوسط أحجام تداول يومية تتجاوز 90 مليار جنيه استرليني، لكونها منصة رئيسة لتداول ديون الحكومة الإيطالية والدول الأوروبية الأخرى، مقابل الحصول على شركة ريفينيتيف الأمريكية التي تعد منصة أكبر لتداول السندات". ويضيف استحواذ بريطانيا على الشركة الأمريكية إيجاد شبه احتكار في البنية التحتية لتداول السندات الحكومية الأوروبية، والمؤسسة القادرة على تشكيل هذه السوق "بورصة لندن" ستكون خارج النطاق التنظيمي للاتحاد الأوروبي، وهو ما يصعب قبوله من جانب المنظمين الأوروبيين. وفقا لهذا التحليل فإن المنافسة ستحتدم بين دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، تحديدا بين بورصة لندن ومنافسيها في الأعوام المقبلة، وهو ما يطرح سؤالا حول المصير المتوقع لبورصة لندن، ومن سيخرج الفائز ومن الخاسر في هذا الصراع؟ وهنا تحديدا تتباين وجهات النظر، فالبعض يرى أن بورصة لندن ستظل في المقدمة، تدعمها في ذلك قدرتها الذاتية ونظام مالي شديد التطور، حيث إن لديها أكبر غرفة مقاصة في العالم، ومنصات تداول متنوعة، والجاذبية التي تتمتع بها لندن كمدينة، واللغة الإنجليزية كلغة عالمية، ولغة التداول المالي عالميا تؤكد أن بريطانيا ستظل تحافظ على مكانتها، بل ستشهد مزيدا من الانتعاش بعد تحررها من القيود التنظيمية للاتحاد الأوروبي. لكن البروفيسور ستيفين وايت أستاذ الاقتصاد الكلي في جامعة بروملي، يرى أن مسار الأحداث سيتغير بمجرد خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد في كانون الأول (ديسمبر) المقبل، وأن عقود القبول الأوروبي بالمكانة المميزة لبورصة لندن قد ولت، والتحدي الذي ستواجهه بورصة العاصمة البريطانية سيكون غير مسبوق وعنيف وسينتقص حتما من مكانتها الدولية. ويقول لـ"الاقتصادية"، "أولا هناك مشكلة انخفاض قيمة الاسترليني، حيث سيؤثر ذلك بشدة في عديد من شركات التجزئة المدرجة في بورصة لندن، يضاف إلى ذلك أن المنظومة البنكية في المملكة المتحدة ستواجه وضعا جديدا عليها، حيث ستقوم بنقل عديد من أنشطتها إلى دول الاتحاد الأوروبي، وهذا سيؤثر حتما في قوة النظام المصرفي البريطاني، الذي كان يمثل ذخيرة أساسية تصب في مصلحة بورصة لندن". ويعتقد البروفيسور ستيفن وايت أن عصر النوايا الطيبة الذي حكم علاقة بورصة العاصمة البريطانية بالبورصات الأوروبية خلال فترة العضوية في الاتحاد الأوروبي قد ولى، إذ إن الأمر لا يتعلق فقط بالمنافسة المتوقعة، إنما أيضا بجوانب قانونية، حيث إن العقود المالية ستختلف الآن، وتراجع الفاعلية القانونية لجواز سفر الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة من شأنه أن يثير تساؤلات حول 26 تريليون جنيه استرليني من المشتقات المالية المتداولة في المملكة المتحدة. كما يتخوف البعض من أن تؤدي شكوك بورصات دولية أخرى من مستقبل بورصة لندن لدفعها إلى فك شركاتها الراهنة معها، ما يضعف وضعيتها في الأسواق الدولية. مع هذا يعلق بيتر جونسون الخبير المالي في بورصة لندن، " قد نواجه بعض الأوقات الصعبة في المرحلة الأولى من الخروج من الاتحاد الأوروبي، لكن إذا أخذنا في الحسبان أن أوروبا في حاجة إلى عقد من الزمان كحد أدني لتطوير أسواقها المالية لمنافسة لندن، فإن الأمد الطويل سيصب في مصلحتنا".

مشاركة :