(دور الذكاء الاصطنـاعي في تعلـيم المستقبل)تناولنا في المقالين السابقين أبرز المشكلات والعقبات التي واجهت أنظمتنا التعليمية في ظل جائحة كورونا، والتي اضطرتها إلى استخدام التعليم الإلكتروني والتعلم عن بعد كحلول جاهزة ومطروحة على الساحة لمواجهة هذه الجائحة. كما تناولنا أول هذه التوجهات المستقبلية وهو الاتجاه نحو التوسع في استخدام التعليم الالكتروني والتعلم عن بعد. وسنتناول اليوم في هذا المقال التوجه الثاني من التوجهات التي سترسم مستقبل التعليم في العالم وهو الاتجاه نحو الذكاء الاصطناعي.ثانيا- الاتجاه نحو توظيف الذكاء الاصطناعي في التعليم:بعد مضي أكثر من 60 عاما منذ صاغ عالم الحاسوب جون مكارثي مصطلح الذكاء الاصطناعي في عام 1956م وعرفه بأنه (علم وهندسة صنع الآلات الذكية) أخذ هذا المصطلح وهذا العلم في التطور والتقدم السريع مدعوما بالنظريات والتقنيات الجديدة التي برزت في مختلف الجوانب العلمية والإنسانية.وهناك اليوم العديد من التعريفات للذكاء الاصطناعي، ولكن يمكن إجمالها في أنه علم من علوم أقسام الحاسوب يهتم بتزويد الآلات بالخوارزميات أو البرمجيات لكي تحاكي القدرات الذهنية لعقل الإنسان وكيفية عمله، والتي من أهمها القدرة على التعلم والاستنتاج من خلال كم المعلومات التي تزود بها الآلة لتحليلها ومحاكات ما هو مطلوب منها.لقد احتل الذكاء الاصطناعي مكانة مهمة اليوم لدى مختلف دول العالم وأصبح محط التركيز الجديد لدى المنافسة الدولية ومؤشرا مهما على تقدم الدول نحو المستقبل، حيث تعتبر الدول المتقدمة الكبرى في العالم أن تطوير الذكاء الاصطناعي يعد استراتيجية رئيسية لتعزيز القدرة التنافسية الوطنية والتقدم المنشود لدولها في مختلف المجالات الاقتصادية والأمنية والسياسية والتنموية من الرعاية الصحية والاجتماعية والتعليمية وغيرها من المجالات. ولأهمية الذكاء الاصطناعي اليوم لدى العديد من دول العالم ولأهمية قياس تقدم الدول فيه، تم إنشاء مؤشر عالمي من خلال مؤسسة أوكسفورد إنسايت (Oxford Insights) في لندن بالتعاون مع مركز أبحاث التنمية الدولية (IDRC) في كندا في عام 2017 لقياس استعداد الحكومات نحو الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم لما يمثله من أهمية في اقتصاديات الدول وتقدمها.ووفقا لهذا المقياس احتلت سنغافورة المرتبة الأول واحتلت دولة الإمارات العربية المتحدة المرتبة رقم 19 واحتلت مملكة البحرين المرتبة رقم 100 من بين 194 مشاركة في هذا المقياس لعام 2019م.ولذا أكدت منظمة اليونسكو في الهدف الرابع من أهدافها للتنمية الشاملة والمتعلق بالتعليم، أهمية ربط الذكاء الاصطناعي بالتعليم، وهذا ما أكدت عليه كذلك الدول الأعضاء في اليونسكو والمنظمات الدولية والمؤسسات الأكاديمية ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص بتوافق الآراء بينها بشأن الذكاء الاصطناعي والتعليم، في المؤتمر الدولي حول الذكاء الاصطناعي والتعليم الذي عقد في بكين في الفترة من 16 إلى 18 مايو 2019. حيث أكدت توصيات هذا المؤتمر تنفيذ الهدف الرابع من أهداف اليونسكو للتنمية المستدامة، بالإضافة إلى نشر تقنيات الذكاء الاصطناعي في التعليم لزيادة الذكاء البشري وحماية حقوق الإنسان وتعزيز التنمية المستدامة من خلال التعاون الفعال بين الإنسان والآلة في الحياة والتعلم والعمل.كما أصبح الذكاء الاصطناعي محركا جديدا من محركات التنمية الاقتصادية وأفعالها في العديد من دول العالم. ما جعل الاستثمار في هذا المجال يقفز قفزات كبيرة والكل يتطلع إلى نتائجه الباهرة في المستقبل القريب.فقد ذكر تقرير مؤشر جاهزية الذكاء الاصطناعي للحكومات (IDRC) لعام 2019 أنه من المتوقع أن تضيف تقنيات الذكاء الاصطناعي 15 تريليون دولار أمريكي إلى العالم الاقتصاد بحلول عام 2030.وبحسب التقرير المنشور حول الكتاب الابيض الذي عرضت أبرز ملامحه وكالة الأنباء الصينية (شينخوا) الرسمية بتاريخ 9 ديسمبر 2019، والذي أصدرته شركة البيانات الدولية (IDC) وهي شركة عالمية لمعلومات السوق، وشركة (QbitAI) الصينية، أنه من المتوقع أن يصل حجم سوق الذكاء الاصطناعي في الصين إلى 11.9 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2023. فقد أصبحت الصين أكثر جذباً لاستثمارات الذكاء الاصطناعي وتمويله. أن القيمة السوقية لصناعة الذكاء الاصطناعي في الصين بلغت نحو 3.5 مليارات دولار في عام 2017، ومن 2013 حتى الربع الأول من عام 2018، بلغ حجم الاستثمار والتمويل في صناعة الذكاء الاصطناعي في الصين 60% من الاستثمار الإجمالي العالمي.وكذلك بدأت العديد من الدول الأوروبية والكثير من دول العالم في تخصص الميزانيات الضخمة للإنفاق على تطوير الذكاء الاصطناعي لتوظيفه في خدمة الاقتصاد والتنمية المجتمعية.وهناك اليوم العشرات بل المئات من التطبيقات المختلفة للذكاء الاصطناعي في كل مجال وهي في تزايد، فقد دخلت في كل تخصص من التخصصات المعروفة والتي يحتاج إليها البشر، فدخلت في التجارة الالكترونية، الرعاية الصحية، الخدمات اللوجستية وسلسلة التوريد، تبسيط التصنيع، إدارة الموارد البشرية، وغيرها الكثير من المجالات التي يصعب عدها أو تحديدها، ومن هذه المجالات المهمة التي دخل فيها الذكاء الاصطناعي مجال التعليم والتعلم.ولسنا هنا في هذا المقال للتوسع في ذكر تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التعليم، لان هناك العشرات من التطبيقات والمئات من الأبحاث والدراسات حول ذلك، ولكن سنذكر هنا ثالث الأمثال على مجالات استخدامات الذكاء الاصطناعي في التعليم.تحليل وتوظيف البيانات التربوية الضخمة:يعتمد الذكاء الاصطناعي إلى درجة كبيرة على كمية المعلومات والبيانات التي يجمعها ويتعامل معها من خلال أنظمة الكمبيوتر وبرامجه وتطبيقاته المختلفة، حيث يوظفها للغرض الذي جمعت من أجله لإحداث التغييرات الإيجابية المنشودة لتطوير عملية التعليم والتعلم.حيث يتوافر في المدارس أو في وزارات وأنظمة التعليم كم هائل من المعلومات التي لو وظفت من خلال الذكاء الاصطناعي لكان لها مردود كبير على تطوير أنظمة التعليم وتحقيق أهدافه.فالذكاء الاصطناعي يساعدنا في جمع المعلومات وفرزها وتصنيفها وتخزينها وتحديثها باستمرار، من هذه المعلومات ما يخص الطلبة وتقدمهم في الدراسة ونسب الرسوب والتسرب والاحتياجات التعليمية من المواد والكتب الدراسية وما يخص المعلمين والإداريين وغيرها الكثير من المعلومات داخل المدرسة، والتي يمكن استخدام هذه المعلومات في تدريب شبكات عصبية ضخمة تستطيع التنبؤ بالاحتياجات المستقبلية، ومساعدة المنظومة التربوية بحسب الاختصاص والاحتياج ما سيزيد من جودة المخرجات التعليمية ويقلل من التكاليف. تفريد التعليم:لعل من أهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المدارس هو حل مشكلة تفريد التعليم من خلال مراعاة الفروق الفردية، والذي نادت به كل التوجهات التربوية منذ أمد بعيد ولكنها لم تنجح في تطبيقه على أرض الواقع إلى حد كبير. ولكن اليوم وبفضل المعلومات الدقيقة والمرصودة عن الطلبة من خلال الذكاء الاصطناعي من حيث درجة تقدمهم ونقاط الضعف أو القوة لديهم وسرعتهم في التعليم والتعلم وتحديد الصعوبات التي يعاني منها كل طالب على حدة ومستواه العقلي والنفسي والاجتماعي والطريقة المفضلة لديه في التعلم، يمكن أن نساعد كل طالب على حدة في تصميم برامج علاجية أو إثرائية للتناسب مع مستواه وسرعة تعلمه وتعالج نقاط الضعف عنده أو سرعة تقدمه، ما سينعكس بصورة مباشرة على تقدم الطلبة واستيعابهم للمواد الدراسية والاستفادة منها الاستفادة القصوى.وعلى الرغم مما تحقق في هذا المجال، فإن موضوع تفريد التعليم مازال يحتاج إلى المزيد من الدراسات والأبحاث في مجال الذكاء الاصطناعي وهناك عدة محاولات في هذا المجل لتطبيق مثل هذه الأنظمة. فمثلا شركة Aleks في أمريكا (تم الاستحواذ عليها من الناشر McGrew Hills) تقوم بتحديد مدى استيعاب كل طالب لمفهوم رياضي معين بالذكاء الاصطناعي وتقترح مسار تعلمي خاص بكل طالب. كما سيتمكن الذكاء الاصطناعي مع الوقت بحسب الدراسات في هذا المجال من قراءة تعابير وجه الطالب التي تشير إلى عدم فهمه لموضوع الدرس وتعديله للاستجابة لحاجاته ومستواه.الرقمنة الذكية للعمل الإداري:يمكن من خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي توفير الكثير من الجهد على كل من الإدارة المدرسية وكذلك المعلم في الكثير من الأعمال الروتينية الموكلة إليهم.فيمكن للإدارة المدرسية من خلال الذكاء الاصطناعي توفير الجهد في إعداد الجداول الدراسية للمعلمين، وتوزيع الطلبة في الفصول الدراسية وتحديد احتياجات المدرسة من التجهيزات والكتب الدراسية والأدوات وفي تحديد سير المدرسة وتقدمها وفق خطتها الاستراتيجية وتحديد نقاط الضعف والقوة واقتراح وقياس جود التعليم في المدرسة المقترحات المناسبة لانطلاقها نحو تحقيق أهدافها، وغيره الكثير من الأعمال المدرسية كمؤسسة تربوية.وبالنسبة إلى المعلم فيمكن للذكاء الاصطناعي أن يقوم بالعديد من الأعمال الروتينية داخل الصف وخارجه والتي تحول دون حصول المعلم على الوقت الكافي للتواصل المباشر مع طلبته، ومن هذه الأعمال تصحيح ورصد الدرجات وتحليلها للاستفادة من المخرجات في تنمية الطلبة، وإعداد أنشطة مختلفة للطلبة ومتابعة تنفيذها وتقويمها والتواصل مع أولياء الأمور، وكذلك في إعداد الدروس، حيث تقوم العديد من الشركات المهتمة بذلك بإنشاء منصات محتوى ذكية متكاملة مع دمج المحتوى بالأنشطة والتقويم مثل برنامج (Netex Learning) الذي يساعد المعلمين على إعداد وتصميم بعض المناهج الدراسية أو الدروس الرقمية من خلال إدماج عناصر تفاعلية مع المحتوي مثل الصوت والصورة في الدرس.إلا أن إدخال الذكاء الاصطناعي في إعدد المناهج الرقمية مازال يواجه بعض الصعوبات ويحتاج إلى مزيد من الدراسات والأبحاث.هذه بعض الأمثلة على بعض تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التعليم، ويوجد اليوم العشرات من التطبيقات وهي في تزايد وتوظيف أكبر للذكاء الاصطناعي في التعليم والتي سيكون لها مستقبل كبير في تغيير واجهة التعليم والتعلم في العالم، والتي نحتاج إلى متابعتها والاستفادة منها لتوظيفها في نظامنا التعليمي، كما علينا تهيئة نظامنا التعليمي وكوادرنا البشرية من طلاب ومعلمين وإداريين للتأقلم مع هذه التغييرات والاستفادة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى أقصى حد ممكن. khalidbQ@gmail.com
مشاركة :