قصيدة النثر.. مفهوم في فخ الاضطراب

  • 7/27/2015
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

على الرغم من كثرة الدراسات والبحوث النقدية التي حاولت ومازالت تحاول بلورة مفهوم (قصيدة النثر) بغية تداوله ضمن دائرة الخطاب النقديّ الحديث، إلا أنها مازالت مضطربة وغير قطعية، ولم يكن مرد ذلك إلى خصوصية الأثر الشعري وإطلاقيته بصفة مجردة فحسب، بل أسهم النقاد والمترجمون والمشتغلون في الحقل الأدبي، عموماً، في تكريس هذا الاضطراب المفاهيمي الذي كان من شأنه أن يحدث أثراً خطراً في سياق النظريتين الأدبية والنقدية على السواء. يعرف أمين الريحاني الشعر المنثور بالقول: (هو آخر ما توصل إليه الارتقاء الشعري عند الإفرنج، وبالأخص عند الأمريكيين أو الإنجليز، فملتون وشكسبير أطلقا الشعر الإنجليزي من قيود العروض كالأوزان الاصطلاحية والأبحرة العرفية. على أن لهذا الشعر المطلق وزناً جديداً مخصوصاً وقد تجيء القصيدة فيه من أبحر عدة متنوعة، ووالت ويتمان هو مخترع هذه الطريقة وحامل لوائها، وقد انضم لمدرسته بعد موته كثير من شعراء أوروبا العصريين المتخلقين بأخلاقه الديمقراطية المؤيدين لفلسفته الأمريكية. ينطوي هذا التعريف على كثير من الحقائق التي تضيء جوانب المسألة الاصطلاحية، فالشعر المنثور تسرب إلى الرقعة الشعرية العربية من نافذة أدباء المهجر في أمريكا مع مي وجبران والريحاني، ويتضح من هذا التعريف أن الريحاني وصحبه كانوا منشغلين بفكرة النهوض، فرأوا في العروض العربي عرقلة أمام النهوض الشعري، وكلمتا (ارتقاء) و(قيود) في نص التعريف يفسران مدى انشغال أمين الريحاني بفكرة التقدم التي كانت انشغالاً ثقافياً عربياً يومئذ، فقد دعا خليل مطران إلى تحرر الشعر العربي شريطة أن يبقى شرقياً وعربياً، ودعا بول شحادة إلى تقليد الشعر الأوروبي والتخلي كلياً عن القافية لأن ذلك يجعل النظم سهلاً ويمكّن الشاعر من التعبير بطلاقة أكبر. إلا أن المهم في تعريف أمين الريحاني هو إيراده لما يميز الشعر المنثور عن الشعر التقليدي، وهو محاولة الخروج عن الوزن العروضي الواحد، والقافية المتكررة بالاستفادة من مزج البحور وتنويع القافية. ويبقى الإشكال الأكبر متمثلاً في الفروقات بين الشعر المنثور والنثر الشعري. إن الباحث في هذه الفروقات ليجد صعوبة في تعليل الخلط المذهل الذي يمزج بين الشكلين، ويفصل بينهما. فحتى لم تأت الدراسات الشعرية العربية بحل لهذا الإشكال، يقول أنيس المقدسي: (لابد من التمييز بين النثر الشعري والشعر المنثور، فالأول أسلوب من أساليب النثر تغلب فيه الروح الشعرية من قوة في العاطفة وبعد في الخيال، وإيقاع في التركيب وتوافر على المجاز، وقد عرف بذلك كثيرون في مقدمتهم جبران خليل جبران حتى صاروا يقولون الطريقة الجبرانية، على أن الشعر المنثور، إنما هو محاولة جديدة قام بها البعض لمحاكاة الشعر الإفرنجي). قد يكون هذا التعريف أقرب إلى الافتراض السابق حول كون النثر الشعري نثراً أولاً، والشعر المنثور شعراً أولاً. لكن يصعب، عملياً، الاهتداء إلى ما يجعل جبران مختلفاً عن الريحاني، ما دام الهاجس عندهما، معاً، واحداً وهو البحث عن أشكال جديدة. فإذا تأملنا كتابات جبران وجدناها كأي نثر عادي، وتميل إلى السرد في أغلبها، ويغلب عليها طابع القص الذي عادة ما ينتهي بحكمة ذات لبوس تنبؤي ديني، ولا تخرج عن مألوف البلاغة العربية، لكنها في الآن ذاته كتابات دينامية سرعان ما تجذب القارئ إليها بقيمها المغايرة، وبتماسك أحداثها، وبمخاطبتها النفس الإنسانية بلغة مهمومة داعية إلى إنسان جديد يسمو على سقطات الحياة الإنسانية الواهنة، مؤسسة بذلك إيقاعاً نابعاً من الفكر أولاً ومن اللغة ثانياً. وكان لمجلّة شعر التي أسّسها ورأس تحريرها الشاعر يوسف الخال في العام 1957، ولندوتها الشعرية والأدبية التي بدأت بإقامتها في يوم الخميس من كل أسبوع، الفضل الأكبر في إطلاق مصطلح قصيدة النثر، والإيذان بالبدء بمرحلة جديدة في تأريخ القصيدة النثرية. إن الحديث عن دور مجلة شعر الريادي، لا يقتصر على الانفتاح الذي اتخذته وسيلةً لدفع عجلة الحداثة، عبر استقطابها أسماء شعرية معينة فقط، بل يتأتى من خلال وعيها الجديد، الذي أفرزت فيه ما هو عصري عما تبنته هي من معنى الحداثة. إن قصيدة النثر تمثل بحد ذاتها تحولاً من تحولات الوعي بمفهوم الشعر عربياً. فعلى الرغم من المحاولات الكثيرة لتقديم مفهوم للشعر خارج الأطر الوزنية إلا أن اللحظة الجوهرية بدأت مع تحرر القصيدة العربية من قيودها الكلاسيكية، حيث بدأ الشاعر كما الناقد العربي يدرك أن الوزن ليس هو الحد الفاصل بين الشعر واللاشعر. إن تأريخ قصيدة النثر في الأدب العربي تأريخ شائك، ففي الوقت الذي نظرت المدرسة الشعرية العربية التقليدية إلى قصيدة النثر بوصفها لعنة وبدعة مبيتة لهدم خصوصية الشعر العربي، نجد من حاول التأصيل لقصيدة النثر من موقع الدفاع عنها، فامتد بها بوعي أو من دون وعي إلى عمق التراث النثري العربي.

مشاركة :