ما أجمل كلمات داود النبى فى المزمور: «السماواتُ تنطقُ بمجد الله، والفضاء يُخبرُ بما صنعت يداه» (مزمور 1:18). يُحكى أن رجلاً قرر أن يعتنى بالمساحة الجرداء المتواجدة أمام منزله، راغباً فى أن يجعلها حديقةً خضراء، وكان يُكرّس كل وقت فراغه لهذا المرعى، وبالفعل استطاع تحقيق هذه الأمنية، ولكن عندما حلّ فصل الربيع، اكتشف وجود بعض الأعشاب التى تبدو كالأوراق الصفراء. فبدأ فى نزعها والتخلّص منها، ولكن فى اليوم التالى ظهرت أعشاب أخرى، فاضطر إلى شراء نوع من المبيدات ليقضى عليها، ولكن دون جدوى، ومنذ تلك اللحظة تحوَّلت حياته إلى صراعٍ مرير مع الزهور الصفراء، حتى إنها كانت تتزايد فى فصل الربيع من كل عام. فذهب إلى زوجته طالباً منها يد المعونة قائلاً: «ماذا أفعلُ أكثر من ذلك؟» فأجابته الزوجة بهدوءٍ: «لديك حلٌ واحدٌ وهو أن تحبّها». فعمل بنصيحة زوجته، حتى إنه بعد وقتٍ قصير رأى هذه الأعشاب تبدو كأنها زمرد من لمسات فنانٍ موجودة فى مرعاه، ومنذ تلك اللحظة كان يشعر بسعادةٍ لا مثيل لها وجمالٍ لا يفوقه أى شيء. لذلك، إذا أردنا أن نتمتع بجمال الخليقة، ونرى كل شيء فيها جميلاً وفاتناً؛ يجب علينا أن نُعَوّد أنفسنا على رؤيتها بحُبٍ وتأملها بعمق؛ خلاف ذلك سنرى فيها أشياءً عادية، لأن العِبرة فى نظرة العين ورؤيتها للخليقة، فالله الجَمَال ذاته يمنحنا الفرصة للتأمل فى وجوده والشعور به بطرقٍ متعددة، وخاصة الخليقة البديعة التى منحنا إياها. ومما لا شك فيه أن الغالبية العُظمى فقدت الشعور بالحس الجمالى فى حياتها، وتغيّرت أشياء كثيرة، فإذا جلسنا فى حديقةٍ مزهرة بالورود والأشجار الخلاّبة، لا نهتم بها ولكن ننشغل بالهاتف أو الأجهزة الإلكترونية ونلهو بها دون أن نترك عيوننا وحواسنا تتمتع بالجَمَال الموجود أمامنا. لا يكفى أن نمتلك البصر لنرى الكون البديع من حولنا؛ ولكن يجب علينا أن نتحلّى بالحُب لجميع المخلوقات، لأنه يساعدنا فى معرفة الأشخاص والأشياء ثم نكتشف سر جمالهم الحقيقى، إذاً لا يستطيع أحد نُكران الجَمَال الكامن فى الكون كله وفى مخلوقات الله، وعندما نتطرق للحديث عن جمال الإنسان، لا نقصد به الجمال الخارجى، لأنه لا يكمن فى تناسق الجسم وروعة الملامح، ولا نحكم عليه من الثياب الأنيقة والثمينة التى يرتديها الشخص، ولا فى المساحيق والعطور التى نُكثر منها؛ ولكنه شعاع روحانى ينعكس على الأشخاص فيكسوهم روعة وجاذبية. وهذا الشعاع الروحانى ينبعث من داخل الإنسان بما يحمله من حكمةٍ وتهذيبٍ وسلوك جيد، ومن القلب الذى فاض بالفضائل السامية. لأن سر الجمال فى الداخل، فإذا كانت روح الإنسان جميلة، يشع ذلك على وجهه وسلوكه وتصرفاته وكلامه. وعندما يمتلك الإنسان قلباً عامراً بالحُب والحنان والرحمة، نجد وجهه محيطاً بهالة من العذوبة والجمال تجعلانه أقرب إلى الملائكة منه إلى البشر، فالإنسان الطيب يحمل فى طياته جمالا وبراءة وعذوبة الطفولة. ولكن إذا كان أنانياً ومؤذياً ويركض وراء مصالحه الشخصية فقط دون أى اعتبار للآخرين، سنرى فيه شخصاً سمجاً ثقيل الظل. فالإنسان أشبه ما يكون بشعلةٍ من نار: إن كان فاضلاً، أضاء وأدفأ وأبهج؛ وإن كان فاسداً، أعمى العيون وأحرق وأهلك. فعندما يفقد الإنسان جماله الداخلي، فلن يبقى سوى الشكل الخارجى الذى يفتخر به، وانسجام فى الملامح الظاهرة وتناسق أعضاء الجسم فقط، حتى إن مَنْ يشاهده سيقول عنه: «هذا جمال مائت لا روح فيه. من الممكن أن يُبهج العين؛ لكنه لا يحرّك القلب والروح». إذاً جميعنا بحاجةٍ ضرورية إلى فلترة وتنقية ما نراه حتى لا نشوّه معنى الجمال الحقيقى الذى منحنا إياه الله فى جميع مخلوقاته العجيبة، ويؤكد لنا القديس أغسطينوس أننا لا نستطيع أن ندرك معنى الجمال الحقيقى إلا بالرجوع إلى الله صانعه، ويقول عن تجربته: «يا الله، لقد أحببتك متأخراً أيها الجمال القديم الحديث، أجل، متأخراً أحببتك! أنت كنتَ فى داخلى وأنا خارجاً عن نفسي! وفى الخارج بحثتُ عنك طويلاً ووثبتُ فى قباحتى نحو الجمالات التى كوّنتها. أنت كنتَ معى وأنا لم أكن معك؛ واستوقفتنى بعيداً تلك الأشياء التى لولا وجودها فيك لما كان لها وجود. وصرختَ بى فانتصر صوتك على صممى وسطع نورك فبدد عماى وفاح أريحك فتنشّقتُه وها إننى إليك أتوق». ونختم بكلمات المؤلف العظيم شكسبير: «ليس هناك جميل ولا قبيح، وإنما تفكيرك هو الذى يصوّر لك أحدهما».
مشاركة :