رغم قسوة تعرضت لها الأديبة المغربية حنان درقاوي في طفولتها، فإن مكتبة والدها الثرية فتحت أمامها أبواب المعرفة، لتغدو واحدة من أبرز المبدعين العرب. وفي حوار مع "الجريدة"، قالت درقاوي، التي تقيم منذ 20 عاماً في فرنسا، إن السرد يلزم أن يمتح من لغة الشعر، لافتة إلى أن علم النفس فتح كتاباتها على دواخل شخصيات أعمالها القصصية والروائية. واعتبرت أن استعمال الأدب للدفاع عن قضايا من شأنه أن ينزلق به إلى مستوى الرداءة... وفيما يلي نص الحوار: ● بدأت علاقتك مع الأدب بكتابة الشعر في سن مبكرة... فلماذا تحولت إلى السرد؟ -كتبتُ الشعرَ في الثامنة من عمري وكان ساذجاً وطفولياً أناجي فيه أبي الذي غادرنا للدراسة في العاصمة وأناجي الله وأطلب عنايته وتعويض غياب والدي، كما كنتُ أصف الشجر وبحيرات مدينة "ميدلت" الجميلة التي كنت أعيش فيها وواصلتُ قرض الشعر بالعربية والفرنسية والاطلاع على الشعر العربي قديمه وحديثه، والغربي أيضاً المتوفر بغزارة في مكتبة أبي الضخمة. بدأت كتابة السرد في سن الخامسة عشرة، وكنتُ أعيش في مدينة "إفران" الجبلية أو "سويسرا المغرب" كما يسمونها، وكنت جالسة أمام المدفأة، وتخيلت أن جسدي يحترق ويتحوَّل إلى ذرات مسافرة في الكون تذروها الرياح، والنص كان عنوانه "لحظة ويكون احتراقي"، ولم احتفظ بمخطوطته، فليس هناك تحول لأن السرد بالنسبة إليّ يجب أن يمتح من لغة الشعر، وما يخلق السرد الذي أقترحه هو تجربتي الحياتية الغنية بالأحداث، وكذا اطلاعي وفضولي المعرفي الكبير في مجالات العلم والفلسفة والعلوم الإنسانية والأدب والفنون والأساطير والأديان، لكن ما يقودني هو الشعر لأنه كالوحي يقود الحالمين والحلم كرامة الإنسان. مجاميع قصصية ● يتنوع إبداعك بين النفَس السردي، القصير والطويل (القصة والرواية)، فعلى أي أساس تختارين القالب الأدبي الذي تسكبين فيه حكايتكِ؟ -ليس هناك فصل في مسيرتي بين القصة والرواية وأصدرت حتى الآن 5 مجاميع قصصية وأربع روايات ولي مخطوط رواية ومخطوط مجموعة قصصية عند الناشر للعام المقبل وأنا أكتب تبعا لضرورات داخلية محضة كما تحدث عنها راينر ماريا ريلكه لشاعره الشاب وهناك أفكار تفترض حيزاً أطول ونَفَساً أقوى تناسبها الرواية كشكل تعبيري طويل، والقصة لها شروط أخرى رغم أن نصوصي القصصية منذ أول كتاب "طيور بيضاء" ذات نفس روائي بحسب النقاد والدارسين. «جسر الجميلات» ● نشأتِ في ظروف أسرية قاسية فهل كانت المعاناة في الصغر سبباً في هروبك إلى عالم الكتابة من أجل البوح؟ -في عام 2014 نشرتُ في بيروت "جسر الجميلات"، وهي سيرة ذاتية عن أيامي الأولى في فرنسا، بُحتُ فيها بأشياء قاسية في الطفولة، وكنت بحاجة لذلك البوح وفي الوقت ذاته كنتُ أدرس علم النفس وأُخضِع نفسي لتحليلٍ نفسي دام ست سنوات بمعدل حصة كل أسبوع مُكلِفة مادياً ونفسياً. هذا الاشتغال جعلني أتخذ مسافة من مشاعري النفسية السلبية التي كان يمكن أن تدمرني. صحيح هناك قسوة في حياتي مع أسرتي من حرمان مادي رغم وظيفة أبي المرموقة، العمل المنزلي المنهك، برود أمي العاطفي ومزاجية أبي الذي كسر صحناً على رأسي وسبّب لي أربع غُرزٍ والترحال المتواصل، لكن في موازاة ذلك نشأت في بيتٍ فيه سقف حرية فكرية مرتفع، حيث منح أبي أبناءه وبناته حرية المعتقد ولم نُرغَم على شيء ولم نسمع يوماً عن جهنم في البيت، وكان أبي رغم ثقافته الغربية المتينة حافظاً للمدائح النبوية، ومن أجمل ذكرياتي معه أنه كان حين يعود مساءً ومعه كبد وكفتة كنا نشعل النار ونشوي ونحن ننشد البُردة في ابتهال، بينما أمي تقف مستغربة. أبي كان مزاجياً ربما لمرض نفسي فهو أكثر الناس مرحاً، لكنه يتحوّل في غمضة عين ويكسر البيت على مَنْ فيه، وطلّق أمي مرتين في لحظتي غضب، كما أنه فتح أمامي مكتبته الجبارة وقرأت فيها أجمل ما أنتجه تاريخ الإنسانية ولم يحجب عني إلا كتابات الماركي دو ساد وكتاب "الخبز الحافي" لمحمد شكري، وهو كان زميلاً له في التدريس بطنجة، حيث ولدت تناقضات أبي التي أفهمها الآن بعد رحلة غوصٍ طويلة، وهي من تناقضات المثقف الشرقي الذي يرنو إلى التحرر لكنه مقيدٌ بزواج فرضته عليه أمه وعمته. أيضاً أفهم برود أمي فقد منعها أبي من تربيتي لأنها أُمية وستؤثر فينا سلباً وهذا قاسٍ على أي أم. وقسوتها في الأشغال المنزلية جعلتني أتعلّم الطبخ المغربي من ألفه ليائه وهي كفاءة جيدة تغنيني عن دروس الطبخ المكلفة في فرنسا، فالبوح بقسوة الوسط كان ضرورياً لعلاجي منه، لكني لم أتوقف عنده لأنني تعلمتُ أن أتجنب اجترار المشاعر السلبية لأن الإجبار على التكرار هو تمظهر لنزعة الموت "الثاناتوس" في علم النفس الفرويدي. أجر ثابت ● باعتباركِ حقوقية أيضاً هل يتناغم ذلك مع اشتغالك بالأدب؟ بمعنى آخر كيف انتصرت أعمالكِ لقضايا المرأة العربية؟ -حين قررت دخول عالم النشر في سن الثانية والعشرين اخترت الفصل بين الكتابة وعملي الذي هو مصدر العيش، واخترت تدريس الفلسفة لضمان أجرٍ ثابت يغنيني عن تأجير قلمي لأي كان كما اخترت مبكراً الالتحاق بجبهة النضال الطلابي وبعدها الحقوقي لكي لا أزج بكتابتي في زقاق الشعارات الفجة والنضال الحقوقي، وكتابة المقال السياسي متنفس لمواقفي السياسية والحقوقية، أما الكتابة فهي مجال آخر ومتعتي فيها هي خلق المتعة الجمالية والتشويق وخلق شخصيات مثيرة تتيح التماثل معها للقارئ، وهذه وظيفة الرواية حسب تعبير سارتر. استعمال الأدب للدفاع عن قضايا رغم نبله مبدئياً يحوّل الكثير من الأعمال إلى رداءة فنية تتستر خلف الشعارات والقضايا. أفق أرحب ● هاجرتِ إلى فرنسا قبل نحو 20 عاماً... إلى أي مدى انعكست غربتكِ على تجربتكِ الأدبية؟ -لا أشعر بغربة في فرنسا، خصوصاً أني محتفظة بأجمل تقاليدنا كأمازيغ ومغاربة من طبخ وموسيقى ولغة. هاجرتُ اختيارياً فوضعيتي في المغرب كانت جيدة كأستاذة وإعلامية وكاتبة وناشطة لها كلمتها في الفضاء العام وهاجرتُ للبحث عن أفقٍ أرحب ومكان أجمل لتربية بناتي وتطوير ذاتي، وفي فرنسا عمقت معرفتي بالفكر الغربي وكونت نفسي أكاديميا في علم النفس، واشتغلت في صحف وراديو فرنسي وهجرتي سببها حب رجل ورغبة في أسرة وفضاء جميل لهذا أعيشها بانسجام تام، وحين يستبد بي الحنين إلى الوطن أحجز طائرة وأذهب إليه. علم النفس ● دراستك للفلسفة وعلم النفس كيف أثرت في كتاباتكِ الباحثة دائماً عن الحرية؟ -التقيت أهم فلاسفة العالم في مكتبة أبي في سن مبكرة وقرأت الرواقيين في الإعدادي ولم أتوقف عن طرح السؤال الفلسفي وخلق الدهشة، وكتابتي يصنفها الكثير من النقاد في السرد المعرفي وعلم النفس خصوصاً في شقه التحليلي ممثلاً في فرويد وما بعده من تلامذته كفيرانزي وأندريه غرين وجاك لاكان وهيلين دوتش ووينيكوت وبولبي والكثيرين، فقد فتحت كتاباتي على دواخل الشخصيات التي أخلقها، وهو شيء ثمين جداً بالنسبة إلى أي كاتب جدي في عمله، فالكتّاب الأميركيون مثل بول أوستر يتابعون دورات تكوينية في علم النفس لبناء شخصيات ذات عمق كبير. نشر القراءة ● ما مشروعك الأدبي الذي تعكفين عليه راهناً؟ -أنهي حالياً كتاباً هو سرد معرفي "مديح القراءة وأثر الكتب في تكوين الشخصية"، وهو مهدى لشبكة القراءة في المغرب وأتنازل فيه عن نسبتي في الأرباح لصالح الشبكة، وهذا دعم متواضع لعملها في نشر القراءة كسلوك بين الناس. وبعثتُ بمخطوط رواية ومخطوط مجموعة قصصية ومخطوط كتاب بالفرنسية عن التشافي بالفلسفة والتحليل النفسي لناشري المغربي "الفاصلة".
مشاركة :