على الرغم من أن حلف شمال الأطلسي «الناتو» الذي أنشئ عام 1949 كمنظمة للأمن الإقليمي لدول غرب أوروبا وأمريكا الشمالية بموجب الفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة الذي أتاح للدول تأسيس تنظيمات من هذا النوع لايزال هو المنظمة الدفاعية الأقوى في العالم فإنه لم يخل من سهام النقد التي تتجدد مع احتدام الأزمات حول العالم والتي ترتبط بمصالح الحلف بشكل أو بآخر، تلك الانتقادات التي بلغت مداها أحيانًا إلى القول بأن الحلف في سبيله نحو «الانهيار» أو «التفكك»، وبرأيي أن تلك الكتابات – مع تقديري لها- قد تناست أمرًا جوهريًا وهو أن الأحلاف عمومًا قد تكون مؤقتة وتؤسس لغرض ما ثم تنتهي إلا أن هناك أحلافا لها صفة الديمومة على غرار حلف الناتو، وإذا ما قارنا بين حلف الناتو وحلف وارسو الذي توارى في أعقاب انتهاء حقبة الحرب الباردة، فإنه يمكن القول ببساطة أن الأحلاف التي تؤسس على ايديولوجيا قد يحالفها النجاح أو الإخفاق كما هو حال حلف وارسو بينما الأحلاف التي تؤسس على المصلحة لا تموت على غرار حلف الناتو.وفي خضم هذا النقاش العلمي يثار تساؤل مؤداه: هل هناك أهمية لمتابعة تطورات ومستقبل تلك المنظمة الدفاعية؟ والإجابة المباشرة نعم لثلاثة أسباب الأول: أن حلف الناتو يرتبط بدول الشرق الأوسط بشراكات تتمثل في مبادرتي الحلف عام 1994 مع سبع دول متوسطية، ومبادرة اسطنبول عام 2004 والتي انضمت إليها أربع دول خليجية، والثاني: محاولة الولايات المتحدة دفع حلف الناتو قدمًا للاضطلاع بدور أكبر تجاه قضايا الشرق الأوسط وهو ما لقي استجابة لدى الحلف. والثالث: ما كشفته الأزمة الليبية والصراع في شرق المتوسط عمومًا من أن هناك صراعا محتدما بين الحلف الذي يسعى للحفاظ على شراكاته وبين روسيا التي يتنامي نفوذها في ذات مناطق الشراكات وما يرتبه ذلك من إرهاصات حرب باردة لن ترتب استقطابات بين الدول فحسب بل ربما داخل القوى التي تنتمي إلى دولة واحدة وهو ما تعبر عنه الحالة الليبية بوضوح.وما يعنينا في هذا المقال هو محاولة الوقوف على الخلافات داخل حلف الناتو وكيفية إدارتها بل والأهم مدى تأثيرها على مستقبل الحلف، إن الأزمات الإقليمية الراهنة لم تكن منشئة لتلك الخلافات وإنما كشفت عن بعض جوانبها، فربما كان أمرًا معتادًا الحديث عن مؤشرات خلاف تركي- أطلسي، إلا أنه مع إعلان فرنسا الانسحاب من مهمة بحرية للحلف في البحر المتوسط إثر خلاف مع تركيا، فضلاً احتدام الصراع الراهن بين تركيا واليونان الدولتين العضوين في الحلف والذي أدى بدوره الى خلافات عديدة بين دول الحلف، ووجود مؤشرات تنذر بخطورة تطور ذلك الصراع، فإن ثمة تساؤلات حول تأثير تلك الخلافات على مستقبل حلف الناتو، صحيح أنه لا يمكن تجاهل تلك الخلافات ولكنها في الوقت ذاته ليست مؤشرات على حتمية انهيار تلك المنظومة الدفاعية التي واجهت أزمات عديدة لثلاثة أسباب أولها: أنها ليست المرة الأولى التي يواجه فيها الحلف تلك التباينات, فهناك سلسلة من الخلافات منها مدى التزام دول الحلف بتخصيص 2% من الناتج المحلي الإجمالي لأغراض الدفاع، وهي القضية التي تعد مثار انتقاد دائم من الولايات المتحدة لشركائها الأوروبيين داخل الناتو وتباين الرؤى الأمريكية والأوروبية تجاه الاتفاق النووي الإيراني، وثانيها: أهمية الحلف كمظلة أمنية للدول الأوروبية، فعلى الرغم من رغبة بعض الدول الأوروبية في تأسيس مظلة أمنية أوروبية تكون «مستقلة نسبيًا» عن الناتو فإن تلك الأفكار والمقترحات لا تحظى بتوافق كافة الدول الأوروبية التي لاتزال ترى في الحلف نوعا من تحقيق توازن القوى في أوروبا، فضلاً عن كونه إطارًا جماعيًا لإدارة الصراع مع روسيا التي تراها بعض دول الحلف تشكل تحديًا لها، وثالثها: بالنظر إلى هياكل حلف الناتو العسكرية والسياسية نجد أنها تعكس تمثيلا لكافة أعضائه بل أن هناك آليات تشاورية على مستويات عدة لبحث مثل تلك الخلافات والتوصل إلى توافقات بشأنها يكون لها طابع الإلزام لكافة أعضائه.ولا يعني ما سبق أن حلف الناتو بمنأى عن التحديات سواء فيما بين دوله الأعضاء, والتي عززتها الأزمات الإقليمية التي كشفت عن تضارب المصالح فيما بينهم، أو تجاه الصراع مع روسيا التي عززت وجودها على جبهتي الحلف، الشرقية «أوكرانيا» والجنوبية «سوريا والأزمة الليبية», بما يعنيه ذلك من أن الحلف بات عليه الحفاظ على التضامن بين أعضائه من ناحية ومواجهة التحديات الخارجية من ناحية ثانية. وفي تصوري أن مواجهة تلك التحديات تظل مرتهنة بثلاثة متطلبات أولها: الدور الأمريكي داخل حلف الناتو، فالولايات المتحدة التي تسهم بالنصيب الأكبر من ميزانية الحلف, لايزال دورًا محوريًا داخل الحلف وبالتالي بقدر ما تتيحه للحلف من مرونة وحرية للحركة بقدر ما يمكنه مواجهة تلك التحديات. وثانيها: قدرة دول الحلف ذاتها على العمل ضمن منظمتين بشكل متواز فالمعروف أن هناك 22 دولة أوروبية تحظى بعضوية الناتو والاتحاد الأوروبي في الوقت ذاته، ومع أن العديد من الدول الأوروبية لاتزال ترى في حلف الناتو مظلتها الأمنية الأساسية وخاصة الدول الشرقية في الحلف فإن هناك محاولات من جانب دول كبرى في الحلف مثل فرنسا لتأسيس «الجيش الأوروبي الموحد»، وثالثها: قدرة حلف الناتو على التأقلم سريعًا مع المستجدات الأمنية من خلال إصدار المفهوم الاستراتيجي الذي يتضمن رؤية دول الحلف للتهديدات الأمنية وتحديد آليات مواجهتها ويتوقع أن يصدر المفهوم القادم في العام 2021 ليأخذ بالاعتبار مصالح شركاء الحلف ضمن أطر الشراكة التي أطلقها الحلف قبل سنوات في سياقات دولية وإقليمية تختلف عن المستجدات الأمنية الراهنة. ولعل دعوة ينس ستولتنبرج الأمين العام للحلف إلى «ضرورة حل النزاع القائم في شرقي البحر المتوسط عبر روح التضامن»، والتأكيد على أن الحلف يدرس تطبيق «إجراءات منع الاشتباك لمنع وقوع حوادث بحرية» بين أعضاء الحلف يعد أمرًا مهمًا لضبط مسار الصراع في شرق البحر المتوسط.إن المتتبع لسياسات حلف الناتو عبر عقود خلت يلاحظ أنها تميزت بمرونة وشمول، فلم ينف الحلف عن ذاته الطابع الدفاعي ولكنه لم يبق جامدًا أمام حقبة ما بعد الحرب الباردة بل استطاع التأقلم مع معطياتها، وبالفعل استطاع حسم العديد من الأزمات وفق شروط حددها للتدخل خارج أراضيه، وبالرغم من ذلك فإن التحديات الراهنة تحتاج لاستجابات أكبر من الحلف الآن وأكثر من أي وقت مضى.{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
مشاركة :