قد يكون هذا العنوان صادما لدى من يعتقدون أن الصحافة ماتت تماما في مصر، والسياسة تعيش في غرفة العناية الفائقة، فأحيانا تخرج مفارقات غير مفهومة تفرض إعادة النظر في بعض المسلمات، وتشي بأن الواقع يستدعي نواميسه الخفية. لعل تقديم نموذج يدغدغ المشاعر بأن الصحافة قادرة على أن تتجاوز كبوتها يجسد شيئا من هذا القبيل، فإذا استنهض العاملون فيها قوتهم سيجدون دوافع عديدة للتعبير عن أهدافهم، ويمكن للسياسة أن تنشط وتكتسب أرضا خصبة قابلة للحياة، وربما تصعب السيطرة على فكرة المسموح والممنوع طوال الوقت. تمثل الحرب التي شنتها جريدة الأخبار الحكومية على وزير الدولة للإعلام أسامة هيكل، الخميس، مفاجأة مهنية وسياسية، حيث وجهت إليه انتقادات حادة لم يعهدها المصريون ضد مسؤول كبير مؤخرا، وحملته نتيجة فشل المنظومة الإعلامية، ووضعت، ضمنيا، على عاتق النظام الحاكم الفشل في اختياره. تحكي مواقف كثيرة قصة التشابك بين الجانبين، والكواليس التي أوجدت رابطا بينهما على مدى عصور مختلفة، وقدّم الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه “بين الصحافة والسياسة” تجربة حية لعمق الترابط بينهما. تدثرت الحملة الجديدة برداء المهنية، والحرص على المصلحة العامة، غير أن فحواها يصبّ في صالح هيئات موازية منافسة لوزير الإعلام، وهو ما جعلها تتجاوز الهدف الصحافي إلى السياسي، وتحمل في طياتها ملامح حساسيات مشتركة حول النفوذ والصلاحية والدور المؤثر، فكل طرف يعتقد أن الآخر يخصم من رصيده. تجاهلت الحكومة هذا التداخل في الاختصاصات، لأن الدستور الذي أوجد ثلاث هيئات إعلامية أغفل إلغاءها عندما تمت استعادة منصب وزير الإعلام منذ حوالي تسعة أشهر، الذي أخفق خلالها في ترك بصمة بأن المهنية قادرة على الفكاك من الترويض، وهو رجل يملك رؤية للتطوير، ويحظى بثقة الرئيس عبدالفتاح السيسي. اشتعلت المعركة بدخول صحيفة الوفد على الخط، وهي لسان حال حزب الوفد الليبرالي، حيث كتب رئيس تحريرها وجدي زين الدين، السبت، منتقدا ما أسماه “الشللية” التي تهاجم وزير الإعلام، بعد يوم واحد من مقال كتبه في الجريدة ذاتها الصحافي محمد مهاود، بعنوان “هيكل المفترى عليه”. دعك من المظلومية والإسقاط السياسي اللذين حملهما كل من العنوانين، وركّز على أن الدفاع جاء من صحيفة كانت في طليعة الصحف المعارضة، ربما تكون فقدت هذا الرونق حاليا، لكنها تظل جريدة حزبية عريقة. بينما الجريدة الحكومية (الأخبار) هوجم على صفحاتها هيكل، وانتقدته بضراوة الكاتبة، وعضو الهيئة الوطنية للصحافة، المسؤولة عن لجنة التقييم بها، فاطمة سيد أحمد، في مقال بمجلة روزاليوسف، الأحد، بعنوان “حقيبة وزارية فقدت ظلها”، دفع مقالا الوفد، رئيس تحرير الأخبار، خالد ميري، إلى كتابة عمود في صدر الصفحة الأولى، الأحد، بعنوان “مستقبل الصحافة والإعلام”، يرد فيه على مقال زين الدين، مرتديا وشاح المهنية، ونفي كل خصومة شخصية، مؤكدا انتقاد الوزير في إطار الرغبة والحرص على تطوير الإعلام، وليس انتقاصا منه أو دفاعا عن آخرين. تحتوي سيمفونية الهجوم والدفاع على شيء ما غير طبيعي، يفسر الحالة التي عليها الصحافة، والعقم الذي وصلت إليه السياسة، فلم يجد من خاضوا المعزوفة سوى هذا الوزير، ما يعزز العمدية والكيدية، كأن دولاب الدولة المصرية يسير على ما يرام. يمكن أن تصب المعارك التي يتقاطع فيها الصحافي مع السياسي في صالح النظام الحاكم عكس ما هو متوقع، فقد تستخدم مثل هذه الوقائع لتثبت أن هناك مساحة جيدة من الحرية في البلاد حرك التجاذب كمية من المياه الراكدة في قناتي الصحافة والسياسة، وبصرف النظر عن مرامي كل طرف، ظهرت حيوية افتقدها المصريون، انصبّت على شخص هيكل وما يمثله من معان رمزية، حيث تعرض من التلفزيون الرسمي أيضا إلى انتقادات عقب توليه منصبه بوقت قصير، تحدثت بنفس اللهجة، كأنه استهداف سياسي. لم يعبأ من انزعجوا من وجود حقيبة للإعلام، جاءت عودتها بقرار من رئيس الجمهورية، لو أراد عزل صاحبها لقام بذلك على الفور، وليس بحاجة لمن يقدم له تفسيرات أو تبريرات، بالتالي فرذاذ الهجوم هنا يطال الرئيس شخصيا، هل يريد هؤلاء أن يبرهنوا على أن اختياره لم يكن موفقا؟ أعتقد أن الهدف أقل من ذلك، حتى لو كان الاستنتاج صحيحا، فهو يكشف عن حرب تكسير عظام داخل الحكومة أخفقت في تصفية حساباتها بالطرق التقليدية، وفاض بها الكيل، وخرجت إلى العلن دون فرملة سريعة لها، بما يشير إلى أن ثمة من طربوا لها، أو راقت لهم اللعبة لتحقيق أغراض سياسية معينة. أصبح الإعلام مطية أو رأس حربة بمصر في كثير من القضايا، توجه له انتقادات دوما بحجة تقاعسه، واتهامات بذريعة أنه لم يقم بالدور الوطني المطلوب، ومن يوجهون هذه وتلك يعيشون في قلب الصحافة، ويتمتعون بمزاياها المادية والمعنوية، وغالبيتهم لم يقدموا دليلا يثبت حرصهم الشديد على تطوير المهنة. صمتت الحكومة على التراشقات، ولم تقم بالدفاع عن صاحب حقيبة فيها، أو تقرر محاسبته إذا كان مخطئا، وبدت مرتبكة في إدارة ملف الإعلام، أو وقع خارج نطاق سيطرتها، لأنها لم تقم بدورها الحقيقي في إنقاذ المهنة، واكتفت بالإنفاق المالي على العاملين فيها، وهي تراهم يخفقون في أداء رسالتهم بالصورة المطلوبة. أخذ الشدّ بين وزير الدولة للإعلام وخصومه شكل الحرب بالوكالة، واكتفى الطرفان بالدخول متعاطفين أو منتميين إلى كليهما في عملية قاسية لتصفية الحسابات. كتب الصحافي كرم جبر، رئيس الهيئة الوطنية للإعلام على صفحته “فيسبوك”، الجمعة، عبارة بالغة الدلالة “يقول الحكماء: عندما تغضب يجب ألّا تقول شيئا أو تفعله.. أمسك لسانك”، في إشارة إلى رشاده وغضبه، ورغبته في العزوف عن الانخراط في المشاجرة مباشرة. يمكن أن يصبّ هذا النوع من المعارك التي يتقاطع فيها الصحافي مع السياسي في صالح النظام الحاكم، عكس ما هو متوقع، فقد تستخدم هذه الواقعة لتثبت أن هناك مساحة جيدة من الحرية في مصر، والفضاء العام لا يتم تقييده كما هو شائع، بدليل أن الحرب الحامية بين فريقين يقفان في خندق واحد، ويعملان في حكومة واحدة. تقدّم هذه التجربة نموذجا عمليا لنظام يبعث الطمأنينة في قلبه، وأنه محق في وضع ضوابط صارمة للإعلام، فإذا كانت جهات حكومية تتصرف بهذه الطريقة في غضبها من مسؤول كبير، فما هي النتيجة لو زادت نسبة الحرية، وطالت الإصلاحات السياسية مجالات حيوية، ورمت المعارضة بوزنها في ملعب يعج بتحديات مصيرية. قدّم هؤلاء عن قصد أو من دونه حجة جديدة ليبقى الحال على ما هو عليه في الصحافة والسياسة معا، حتى إشعار آخر، فاختبار الوزير هيكل ضاعف من القناعة بأن الحرية لها أنياب وأظافر ومخالب وضرائب لم يحن وقت تحمل تداعياتها.
مشاركة :