لم يكن أكثر المتشائمين يتوقع أن تركيا ستُقرر فجأة الدخول في حربين في وقت واحد لما سيكون لهذا القرار من تكاليف اقتصادية وسياسية عالية على المستوى الإقليمي والداخلي وهو الأهم، فمنذ بداية الأزمة السورية حاولت تركيا النأى بنفسها عن التدخل المباشر بالحرب، وكانت عملية نقل ضريح سليمان شاه من مقره في فبراير 2015م دليلا على سياسة منع انزلاق تركيا المباشر لمستنقع الحرب السورية رغم دعمها بوضوح لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، كما أن أنقرة كانت واضحة في رفض الانضمام إلى التحالف الدولي المناهض لتنظيم داعش بحجة أن هزيمة التنظيم من دون إزاحة النظام السوري، سيعزز الفوضى في المنطقة وسيخلق فراغا على الأرض السورية وهو ما سيعزز قوة أكراد سوريا في المعادلة السورية والإقليمية، وهذه الحجة كانت أحد أسباب التحفظ التركي عن الانخراط العسكري المباشر سابقا ضد داعش. التغير المفاجئ في الموقف التركي من داعش جاء ظاهرياً بعد تفجير سوروج الإرهابي في 20 يوليو، والذي أسفر عن حصد أرواح 32 وجرح العشرات غالبيتهم من الأكراد الأتراك كانوا متوجهين لكوباني، وبما أن الانتحاري كان تركيا ينتمى لتنظيم داعش لم يفهم أحد لماذا لم يتم استهدافهم بعد دخولهم الأراضي السورية، ولماذا خرق التنظيم قواعد اللعبة والقاضية بعدم التعرض للأراضي التركية؟ وهذا الأمر يُذكر بشبه الإجماع النخبوي التركي والذي مفاده لو أن تركيا اتخذت سياسة صحيحة من البداية تجاه المنظمات الإرهابية كـ داعش لما عاشت اليوم خطر الارهاب المحدق بها. ما يحدث في تركيا اليوم هو مشهد أكثر خطورة، لأنّ الخطوات التي ستقوم بها الآن تركيا متأخرة، فقد اصبحت تعيش تحت خطر وتهديد داعش المباشر في الداخل وليس من الخارج فقط، كما أنها ستجد نفسها مُضطرة لمواجهة العديد من الجبهات الأخرى في نفس الوقت، وذلك بخلاف حزب العمال الكردستاني والذي يُحارب الدولة التركية منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً وهي حرب كلفت تركيا أكثر من 30 ألف قتيل ومئات المليارات من الدولارات، وتدهور الاقتصاد والمكانة الدولية، وأخرت نهضتها لعقود، ولا شك ان انهيار عملية السلام الكردية وعودة الحرب سيكون كابوسا حقيقيا. صحيح إن التعزيزات العسكرية والتي تم إرسالها إلى الحدود السورية هي الأضخم في تاريخ الجمهورية التركية، حيث تم إرسال أكثر من 20 ألف جندي، لكن مهما حصل فلن يكون من السهل التوغل داخل الأراضي السورية أو ضبط الحدود والعناصر التي تسربت عبر الحدود في الماضي، فتركيا تقف الآن في مواجهة داعش على الحدود، وكذلك مواجهة عناصر داعش وحزب العمال الكردستاني داخل تركيا وهذا له تكاليفه الأمنية والاقتصادية والتى ستؤثر على الاقتصاد التركي الذي يعاني من صعوبات حالية. تركيا والتى وافقت - مُضطرة - على السماح بالطائرات الأمريكية باستخدام قاعدة إنجيرليك يجب أن تعي أنه ليس من مصلحة واشنطن ضرب أكراد سوريا كما تريد هي، بل ستُفسح مكانا لهم في التفاوض على مستقبل سوريا. كما أنها تعلم أنه ليس من مصلحة واشنطن إسقاط النظام السوري بل توفير البديل عبر عملية سياسية طويلة وهذا الأمر لا يخدم الموقف التركي. الأكثر تكلفة أن الخطوة التركية الأخيرة ستعصف بعملية السلام الداخلية وستُضعف حليف تركيا البارزاني في شمال العراق، والذي طالب الحكومة التركية باتخاذ الخطوات نحو عملية السلام وتسخير كل الجهود للاستمرار فيها وعدم العودة للوراء، لان السلام والتعايش - مهما كان ثمنه - أفضل الحلول للوصول إلى مستقبل مزدهر. محلل سياسي
مشاركة :