ترتبط مساعي تركيا العدائية لاكتساب صفة القوة العظمى في أنحاء شرق البحر الأبيض المتوسط والمشرق بمشاكل الطاقة، فهذا ما يعطي أهمية كبرى لتصريح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في 21 أغسطس الماضي، حين تكلم عن اكتشاف أكبر حقل غاز طبيعي في تاريخ تركيا، وأعلن إردوغان في هذا التصريح أن الكمية المُكتشفة تصل إلى 320 مليار متر مكعب وتشكّل جزءاً من مصادر أكبر بكثير، إذ تتوقع تركيا أن تطرح الغاز المشتق من هذا الاكتشاف في الأسواق بحلول 2023. لكنّ هذا التطور المستجد لا يحلّ مشاكل تركيا في مجال الغاز الطبيعي رغم الضجة التي أحدثها الخبر، ولم يتّضح بعد ما إذا كانت هذه الكمية من الغاز قابلة للاستعمال في الأسواق، ولم يتأكد أحد حتى الآن من وجود احتياطيات وافرة أخرى في البحر الأسود بانتظار أن تكتشفها تركيا. استناداً إلى الظروف القائمة، يبدو أن هذا الغاز لن يخفف الاضطرابات الكبرى التي سببتها العمليات التركية العدائية في شرق المتوسط، فقد استولت تركيا على الغاز القبرصي وهددت اليونان وفرنسا وتدخلت في ليبيا بالقوة. وعمد إردوغان إلى معاداة جميع أعضاء "منتدى غاز شرق المتوسط" لدرجة أن يطرح الوضع تهديداً حقيقياً بإطلاق عمليات عدائية ضد اليونان المنتسبة إلى حلف الناتو، بالإضافة إلى مصادرة واستكشاف جزء من المياه الإقليمية القبرصية، فتح إردوغان قنوات التواصل مع حركة "حماس" واستضاف اثنين من زعمائها لمهاجمة إسرائيل. وفي نوفمبر 2019، وقّع على معاهدة مع الحكومة الليبية التي اعترفت بموجبها بحقوق تركيا البحرية في شرق المتوسط، رغم انتهاك حدود المياه القبرصية، كما أنها تعترف بسيادة تركيا على المياه التي تمتد إلى معظم جزر بحر إيجة، بما في ذلك "كريت". ثم عمد إردوغان إلى معاداة مصر التي تمقته أصلاً بسبب دعمه للحكومة الإسلامية السابقة (التي تمثل لإخوان) في القاهرة وحركات إسلامية أخرى، فضلاً عن قراره إرسال قوات عسكرية إلى ليبيا للتصدي للزعيم خليفة حفتر الذي تدعمه مصر في الحرب الأهلية الليبية، وفي الفترة الأخيرة أرسل إردوغان أيضاً قوة بحرية تركية لتهديد البحرية اليونانية، مما دفع فرنسا إلى إرسال سفن حربية لدعم اليونان، ونتيجةً لذلك، تفاقمت الأزمة داخل حلف الناتو سريعاً. حتى الآن، لا شيء يشير إلى نشوء صراع بين تركيا والدول المجاورة لها في البحر الأسود بسبب الاكتشاف الأخير، لكن لا يمكن استبعاد تصاعد التوتر مع روسيا وأوكرانيا ورومانيا وبلغاريا نظراً إلى المواقف التركية العدائية في مجال السياسة الخارجية، وفي ظل المشاكل القائمة إذاً قد تتفاقم الاضطرابات في شرق البحر الأبيض المتوسط بسبب غاز البحر الأسود بدل أن تتراجع حدّتها، وبما أن كمية الموارد المُكتشفة حديثاً وكلفتها وقيمتها لم تتحدد بعد فلن تفيد تركيا قبل 2023 على أقل تقدير، من المتوقع أن تتوسع طموحات تركيا في مجال الطاقة في منطقة المشرق، وما لم يحصل أي تغيير جوهري في السياسات التركية، فمن الطبيعي أن يتماشى الخطاب التركي المرتقب أيضاً مع الجهود الرامية إلى تحقيق نجاحات عاجلة في مجال السياسة الخارجية وتوفير إمدادات من الطاقة المستدامة. سيكون إيجاد كميات إضافية من الطاقة كي تتمكن تركيا من تسويقها لاحقاً عاملاً أساسياً لتلبية الطلب المرتفع وتخفيف الأعباء المرتبطة بفاتورة الاستيراد السنوية، علماً أن الخطاب العدائي سيصبح ضرورياً حينها لتعزيز الدعم المحلي المتناقص لإردوغان، وهذا الوضع يعطي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لا سيما ألمانيا، مجالاً للتفاوض على حل مشاكل الطاقة في محيط قبرص واليونان. بعبارة أخرى، قد تبرز الحاجة إلى إنشاء خط أنابيب يمتد من أحد مصادر "منتدى غاز شرق المتوسط" إلى تركيا ثم اليونان، على أن يتفرع من هناك نحو أوروبا، كذلك قد يفرض هذا الواقع مفاوضات جدّية تتعلق بمكانة قبرص النهائية ومكانة الجمهورية التركية في شمال قبرص أيضاً، فقد أصبح هذا النوع من الحلول السياسية ضرورياً لأن تركيا لا تنتظرها أي معجزة اقتصادية في الأفق رغم إعلانها عن اكتشاف كميات الغاز الجديدة، لكن من دون اعتماد نهج تفاوضي أكثر انفتاحاً، ستتابع تركيا على الأرجح التحرك بعدائية ضد جميع محاوريها وشركائها المحتملين، وفي هذه الحالة قد تصبح الطاقة أبسط مشاكل تركيا. * «ستيفن بلانك»
مشاركة :