وارسو - قد يبدو القيام برحلة قطار طويلة إلى البحر الأسود تستغرق أسبوعين أمرا جنونيا، لكنه بالنسبة إلى البعض عطلة أحلام. تتضمن الرحلة المرور على مدينة روكلو البولندية ببلدتها القديمة الشهيرة ومدينة كراكوف بميدانها الرئيسي وقلعتها قبل أن يستمر القطار في سيره إلى مدينتي لافيف وفينيتسا غربي أوكرانيا. ويواصل القطار طريقه نحو بالتي وكيشيناو في مولدوفا ومدينة تيراسبول في ترانسنيستريا وأوديسا في أوكرانيا. بعد انطلاقه من كراكوف يصل القطار إلى مدينة بريزيمسل جنوب شرقي بولندا حيث التاريخ العريق. هنا تنتهي حدود الاتحاد الأوروبي، فيترجل المسافرون وهم يحملون حقائبهم لعبور الطريق السفلي نحو الجهة الأخرى من المحطة ليستقلوا القطار المتجه إلى لافيف. عربات الدرجة الأولى في القطار مجهزة بمقاعد زرقاء وثيرة، كل شيء فيها يتسم بمظهر عصري والفضاءات مساحاتها رحبة. يتوقف القطار عند الحدود البولندية الأوكرانية لقرابة 15 دقيقة، يتفقد رجل بزي رسمي هويات الركاب ثم يومئ برأسه، لينطلق القطار سريعا بين الحقول والغابات والبلدات الصغيرة. في لافيف الموسيقى تصدع في ميدان رينوك بوسط المدينة، يرقص الأحبة ومن حولهم النافورات والمتاحف والمطاعم وقاعة المدينة. يمضي الزائرون في جولة عبر الشوارع المتعرجة الممهدة بالحصى، أما الساحات فتتسم بسحر رهيب. تجذب المطاعم الزبائن بأسمائها الأصلية العتيقة مثل “دكتور فوست” و”الأخوية” و”المافيا”. بعد رحلة مريحة مدتها أربع ساعات ونصف الساعة يصل القطار إلى فينيتسا المدينة التي يسكنها 380 ألف نسمة وبالكاد ترى فيها السياح، أما أبراج الكنائس والقباب فتقدم للسياح وجهة يزورونها خلال نزهة ما بعد الظهيرة. المحطة القادمة هي مولدوفا. وخار القطار، يتابع المسافرون المزارعين يعملون في حقولهم وتتعاقب الأشجار مع الأراضي على المشهد، وبين الفينة والأخرى، تظهر قرية أو قبة كنيسة أرثوذكسية، إلى أن تغرب الشمس. ويصل القطار في موعده بعد رحلة استغرقت ثماني ساعات قطع فيها 290 كيلومترا شملت نقاط المراقبة الحدودية. Thumbnail المقصد هو مدينة “بالتي” الصناعية الصغيرة حيث تشمل معالم الجذب هناك؛ الشارع الرئيسي ونصبا تذكاريا لدبابة ومركزا للتسوق. تنصح موظفة الاستقبال في فندق ذا إيليت السياح بأن يستقلوا سيارة أجرة تاكسي خلال توجههم من بالتي إلى كيشيناو لمسافة 135 كيلومترا مقابل 35 يورو. فتقول “إنها أسرع بكثير من قطاركم”. سيارة التاكسي مريحة والسائق ودود، تحدث عن بلده وأهلها ونبيذها. فمولدوفا من أفقر البلدان في أوروبا لكنها تشتهر بنبيذها الجيد. كيشيناو عاصمة مولدوفا، واسعة ولكنها ليست مدينة جميلة ولا تحظى بإقبال سياحي ضخم. مشاهد الحياة اليومية هي مصدر الجذب الرئيسي فيها، مراهقون يقفزون بملابسهم في نافورة بأحد المتنزهات؛ ولا أحد يوجه لهم كلمة. منطقة المحطة في مدينة كيشيناو توفر خلفية جميلة لالتقاط الصور، ومن عناصرها قاطرة بخارية قديمة. نادرا ما يخرج أحد من مدينة تيراسبول عاصمة ترانسنيستريا التي انفصلت سريعا عن مولدوفا عقب انهيار الاتحاد السوفييتي إلا أنها لا تحظى بالاعتراف الدولي، لكن مع الحب العميق تجاه روسيا وبوتين ولينين وماركس لا تشكل ترانسنيستريا مصدر جذب للسياح الأجانب. وأغلب المسافرين يمكثون في القطار حتى الوصول إلى أوديسا، لكن يفوتهم أحد آخر أعظم أسرار أوروبا، فالناس في تيراسبول يتسمون بالمحافظة والود وتقديم العون، أما في ميدان سيوفوروف الضخم، فتصطف المساحات الخضراء والأعلام والمباني الإدارية فضلا عن النصب التذكارية. ساعتان متواصلتان في القطار يفصلان المسافرين عن محطة أوديسا، التي ربما تكون الأجمل بين محطات الرحلة بأكملها. المبنى التاريخي الرئيسي فيها يمتلك قبة عظيمة وقد تمت إعادة ترميم معظم أركانه بعد الحرب العالمية الثانية. جولة قصيرة خارج محطة القطار تنتهي بالسياح إلى دار الأوبرا التاريخية ودرجات “بوتيمكن” الشهيرة. وفي الطريق يتفقد السياح دير سانت بانتيلييمو وكاتدرائية الثالوث المقدس ومعبد أور سومايخ اليهودي ومسجد السلام. يصعد يوميا مئات الزائرين درجات بوتيميكن البالغ عددها 192 درجة، فمن أعلاها يبدو منظر ميناء أوديسا على البحر الأسود خلابا. نهاية هذه الرحلة الباعثة على الاسترخاء تقترب، ولو أن محبي التاريخ يحرصون على التوقف في كييف خلال عودتهم؛ فزيارة إلى ميدان مايدن الشهير وسط العاصمة الأوكرانية ضرورة لا غنى عنها.
مشاركة :