هل فكرت كيف ظهرت الكتابة في تاريخ البشر؟ يقول الكاتب العلمي نيكولاس كار: في القرون السابقة بدأ الكتّاب يضعون قواعد لترتيب الكلمات في الكتب، وقبلها لم يكن يوجد هذا. كانت الكلمات متراصة بشكل مستمر، طريقة سُمّيت النص المتواصل. وضعها بهذه الطريقة المرصوصة جعل قراءتها صعبة جداً، فكان يجب أن تُقرأ وتفك الشفرة وتُقرأ عالياً، فلم يكن الكثير من الناس يقرؤون، لكن ترتيب الكلمات ووضع المساحات بين الكلمات كان لهما تأثير ضخم، بما في ذلك علامات الترقيم. صارت الكتابة تتجه للعين بنفس مقدار توجيهها للأذن، وهذا صنع ثورة (أي ظهور قواعد ترتيب الكلمات)، ثورة في هيكل اللغة، فأزال الإجهاد العقلي الذي كان يتطلبه فك شفرة قراءة النصوص القديمة، وصار الناس يقرؤون بسرعة وبشكل صامت وبفهم أكثر. بدأت القراءة المتعمقة التي نعرفها اليوم تظهر. ستتفاجأ ولكن في السابق لم يكن هناك شيء اسمه قراءة صامتة! كانت القراءة دائماً بصوت عالٍ. القراء لم يصبحوا أكثر كفاءة في القراءة لكن أصبحوا أكثر انتباهاً وتركيزاً، فقراءة كتاب بشكل صامت يتطلب قدرة على التركيز لفترة طويلة أن تُسلّم نفسك لصفحات الكتاب، وتطوير هذه القدرة لم يكن سهلاً، والسبب أن طبيعة العقل البشري التشتت. طبيعتنا هي التنقل ببصرنا (ومن ثم انتباهنا) من شيء لآخر، وأن نكون على وعي بما حولنا. الذي يجذب انتباهنا أكثر من أي أمر آخر هو أي تغيير في البيئة المحيطة بنا، وعن ذلك قال علماء: «إن حواسنا مضبوطة بشكل دقيق للتغيير، والأشياء غير المتغيرة تصبح جزءًا من المكان ولا تُرى بعد ذلك». قراءة كتاب هي تدرب على عملية غير طبيعية من التفكير، عملية تطلبت انتباهاً متصلاً غير مكسور على أمر واحد غير متحرك. قراءة الكتاب نوع من التأمل، والعملية ليست تفريغاً للعقل، بل ملْئاً وإتماماً. ينزع القارئ تعلق انتباهه بالانهمار الخارجي لإشارات العالم الذي حوله ليركز بعمق على السيلان الداخلي للكلمات والأفكار والمشاعر. هذه خلاصة تلك العملية العقلية الفريدة.. القراءة العميقة.
مشاركة :