ظهر على الساحة الليبية زعيم سياسي جديد اسمه أحمد معيتيق، الحقيقة أن الرجل الذي تخرج من جامعة لندن للدراسات الاقتصادية العالمية (1993 - 1994) وحصل على دكتوراه في إدارة الأعمال من الجامعة الأوروبية في لندن، كانت له تجارب سياسية بعد الإطاحة بنظام القذافي، اتجه إليها من باب الاقتصاد عندما اختير مستشارا للمؤتمر الوطني العام، يقول البعض إن خاله عبدالرحمن السويحلي كان وراء بدايات بروزه. وفي 4 مايو 2014، جرى انتخابه رئيسا جديدا للوزراء في ليبيا، وقد جرت عملية انتخابه في ظل ظروف لا تزال محل إثارة للجدل. حيث رفض أعضاء في المؤتمر الوطني بينهم نائب رئيس المؤتمر عزالدين العوامي الاعتراف بشرعيتها طاعنين في منح الثقة بها. عندما أعلن في ديسمبر 2015 عن اتفاق الصخيرات، ظهر معيتيق كنائب أول لرئيس المجلس الرئاسي، وتم اعتباره آنذاك ممثلا للقوى الرأسمالية في مصراتة، مدينة المال والصناعة والميليشيات في غرب البلاد، لكن المؤكد أنه لم يكن من عناصر الإسلام السياسي كالعماري زايد أو عبدالسلام كاجمان، ولا هو من أمراء الحرب السابقين ومسؤولي مد الناتو بالإحداثيات كفتحي باشاغا الذي يتولى حاليا منصب وزير الداخلية المفوض. الجمعة الماضي، خرج المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش الليبي ببيان أعلن فيه عن التوصل إلى اتفاق باستئناف ضخ النفط بعد تسعة أشهر من إغلاق حقوله ومنشآته، وذلك وفق جملة من المبادئ شرحها معيتيق في بيان له، صدر تقريبا في نفس الوقت. كان الأمر مثيرا، فمثل هذا الاتفاق كان يمكن أن يعلن عنه فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي أو مصطفى صنع الله رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط، أما أن يعلن عنه معيتيق فذلك يعني أن هناك شيئا ما يدور في الخلفية العامة للصراع. عندما قرر معيتيق الحديث في مؤتمر صحافي، احتل مسلحون من مدينة مصراتة المركز الإعلامي، وأعلنوا أنهم لن يسمحوا له بالكلام، كان ذلك المشهد تتمة لأحداث متسارعة جرت الجمعة، عندما رفضت ميليشيات مصراتة توجه معيتيق إلى مدينة سرت للتوقيع على الاتفاق النهائي مع وفد القيادة العامة للجيش. تبين لاحقا، أن معيتيق قاد بمعزل عن السراج وميليشيات الرئاسي وأمراء الحرب في مصراتة، مفاوضات مع وفد من قيادة الجيش ومجلس القبائل في موسكو تحت رعاية روسية، تم التوصل من خلالها إلى اتفاق باستئناف ضخ النفط وفق جملة من المبادئ، من بينها تشكيل لجنة فنية مشتركة من الأطراف تشرف على إيرادات النفط وضمان التوزيع العادل للموارد وتتولى التحكم في تنفيذ بنود الاتفاق خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، على أن يقيّم عملها نهاية السنة الحالية وتحدد خطة عمل للعام المقبل. وجرى الاتفاق على تعديل وتوحيد سعر الصرف أو الرسوم على مبيعات النقد الأجنبي بحيث يشمل كافة المعاملات سواء الحكومية أو الأهلية ولكافة الأغراض، وإلغاء تعدد الأسعار، وأقر فتح مقاصة ومنظومة المدفوعات الوطنية بين المصارف في كل أرجاء التراب الليبي، وكذلك فتح الاعتمادات والتحويلات المصرفية لجميع الأغراض المسموح بها قانونا ولكافة الجهات دون تمييز. وذلك إضافة إلى معاملة المصارف على قدم المساواة وبالضوابط القانونية الموحدة على الجميع، ووضع الآلية المناسبة للاستفادة من الرسم المفروض على سعر الصرف وذلك باستخدامه في تمويل مشروعات التنمية وإعطاء الأولوية للمشروعات العاجلة التي تخدم المواطن بشكل مباشر والمناطق المتضررة وإعادة إعمارها، ودعم المؤسسة الوطنية للنفط بما يضمن إعادة الإنتاج إلى وضعه الطبيعي، وتنفيذ المشروعات على أن تخضع كافة عملياتها للتدقيق والمراجعة بالوسائل والطرق المناسبة لضمان تنفيذ الاتفاق بشكل مناسب وشفاف. لو عدنا قليلا إلى الوراء سندرك أن معيتيق زار موسكو على رأس وفد رفيع في يونيو الماضي، وأكد من هناك على أهمية الدور الروسي، وعندما عاد إلى طرابلس كان أول ما قام به هو أن اتصل بقيادة الميليشيات في مصراتة لتحذيرها من أي محاولة للاقتراب من الخط الأحمر سرت الجفرة، ما جعله عرضة لانتقادات واسعة من قبل أمراء الحرب، لكن الرجل كان يعلم أن أي مغامرة للتقدم ستدخل البلاد في حرب حقيقية، وكان يتحدث بلغة الواثق من المعطيات التي اطلع عليها. باتفاقه مع قيادة الجيش استطاع معيتيق اختراق الحواجز النفسية والسياسية والجهوية وظهر للعموم كرجل سلام قادر على تجاوز الماضي بمختلف آلامه وأزماته للتقدم نحو الحل. وهو ما لم يستسغه الإخوان وعملاء أردوغان وأمراء الحرب والمتاجرون بدماء الليبيين الذين كانوا يصرون على إقصاء المشير حفتر والامتناع عن فتح باب الحوار معه. ولعل من أبرز هؤلاء فتحي باشاغا الذي يقدم نفسه على أنه رجل مصراتة القوي وحامل لواء ثقة الأتراك والأميركان والإنجليز معا والطامح إلى التمكن من صدارة المشهد بعدما انسحب السراج غير مأسوف عليه. تحرك المقربون من السراج وباشاغا ضد معيتيق، لكن عقلاء مصراتة من الرافضين لسيطرة أردوغان والإخوان، والذين اتجهوا إلى القاهرة الأسبوع الماضي لفتح جسور التواصل مع الشقيقة الكبرى، يقفون اليوم معه. هناك كذلك القوى الدولية التي رحبت باستئناف ضخ النفط، وهناك الجيش الذي قال بصراحة إنه مرتاح للحوار مع معيتيق وللنتائج التي توصل إليها بعد المفاوضات التي أجراها معه، وهناك المؤسسة الوطنية للنفط التي حاولت التصدي للاتفاق قبل أن يأتيها الضوء الأخضر من وراء البحار بضرورة الانصياع للأمر الواقع. جاء اتفاق معيتيق مع قيادة الجيش ليكشف عن حقيقة ما يدور في غرب البلاد، فهناك أطراف تضع كل بيضها في سلة أردوغان، ولا تريد إيرادات النفط إلا كاملة بما يساعده على إنقاذ اقتصاده المتهالك، وهناك من كان يعوّل على قرار دولي يلغي نهائيا دور المشير حفتر ويفرض عليه فتح الحقول والموانئ النفطية دون إبطاء مقابل الاستمرار في مسارات الحوار، وهناك من كان يعتقد أن عودة النفط ستكون بعد اجتماع جنيف الذي سينطلق في الخامس من أكتوبر القادم لتشكيل المجلس الرئاسي الجديد. لكن ما تم فعلا هو أن الجيش أكد أن دوره لا يزال قائما وبقوة، وأن هناك زعيما جديدا ومشروع رجل سلام في غرب ليبيا ظهر على الساحة وباستطاعته أن يساعد على توحيد الجهود رغم الاختلاف، وهو أحمد معيتيق، السياسي الهادئ الذي كان حريصا دائما على ألا يدخل مدجنة الإخوان ولا يكون تابعا رخيصا لأردوغان.
مشاركة :